27-10-2025 01:18 PM
بقلم : د. هيثم علي حجازي
لم تعد هجرة الشباب الأردني مجرّد ظاهرة اقتصادية أو اجتماعية عابرة، بل باتت تعبيرا عن أزمة عميقة يعيشها الوطن في علاقته مع شبابه وكفاءاته. ففي الوقت الذي يفترض فيه أن تكون هذه الطاقات محرّكا للتنمية ومصدرا للابتكار، نجدها تبحث عن فرص العيش والعمل خارج حدود البلاد، حاملة معها أحلامها ومهاراتها وآمالها بمستقبل أكثر عدلا واستقرارا. والحديث عن هجرة الكفاءات الأردنية ليس ترفا فكريا، بل هو جرس إنذار حقيقي لما يمكن أن يتحوّل إلى نزيف مستمر يهدد مستقبل التنمية الوطنية، إذ حين تهاجر العقول، لا يفقد الوطن أبناءه فحسب، بل يفقد قدرته على النهوض.
ولا يمكن فهم دوافع الهجرة بمعزل عن السياق البنيوي الذي يعيشه الشباب الأردني منذ سنوات. فالأمر لا يتعلق فقط بضعف الرواتب أو ارتفاع المعيشة، بل إن كثيرا من الخريجين يعانون من شعور متراكم بالاغتراب داخل وطنهم، لأنهم لا يرون فرصة عادلة للتقدم.
من جهة أخرى، أدت التحولات والضغوطات خلال العقود الأخيرة إلى الحدِّ مِن دور الدولة في التوظيف والرعاية، دون إيجاد بدائل تنموية قادرة على امتصاص طاقات الشباب. فتكوّنت فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، وأصبح الخريج يحمل شهادة لا تضمن له وظيفة.
قد يرى بعض الاقتصاديين أن هجرة الكفاءات تحمل منافع مالية عبر تحويلات المغتربين، لكن هذا الرأي يغفل عن أن رأس المال البشري هو أغلى ما يملكه الأردن. فالطالب الذي درس الطب أو الهندسة أو العلوم الدقيقة كلّف الدولة والمجتمع استثمارات كبيرة في التعليم والرعاية. وعندما يهاجر هذا الشاب، فإن الدولة تخسر استثمارها المعرفي فيه، بينما تجني الدول المستقبِلة ثماره.
الأخطر من ذلك أن استمرار نزيف العقول يؤدي إلى تجويف داخلي في القطاعات الحيوية يتمثل في: (1) نقص الكفاءات في المستشفيات والجامعات ومراكز البحث (2) ضعف الإبداع الصناعي والتكنولوجي المحلي (3) تباطؤ نقل الخبرة بين الأجيال داخل المؤسسات. وبهذا المعنى، تصبح الهجرة ليست مجرد انتقال أفراد، بل تحوّلا في مسار التنمية الوطنية من الداخل إلى الخارج.
علاوة على ذلك، فإن للهجرة آثارا سلبية أخرى تتمثل في: (1) الأثر الأسري، إذ قد تؤدي الهجرة الطويلة إلى التفكك الأسري أو ضعف التواصل مع الأسرة (2) الأثر الثقافي المتمثل في انتشار أنماط جديدة من القيم والعادات، إذ أن عودة المهاجرين قد تُحدث صراعا بين القيم التقليدية والحديثة (3) الأثر الديموغرافي الذي يؤدي إلى تغيير في التركيب العمري والنوعي للسكان، وزيادة نسبة الإناث بسبب هجرة الذكور للعمل.
الهجرة ليست قرارا ماديا فقط، بل قرار نفسي عميق. فكثير من الشباب الأردني يشعر بأن ليست له فرصة في الوطن، وأن “الفرصة” أصبحت في مكان آخر، الأمر الذي يؤدي إلى تولُّد الشعور بالاغتراب الداخلي قبل السفر، مما يجعل العلاقة بين الفرد والوطن علاقة مشروطة: ما دام الوطن لا يمنحني، فلن أنتمي إليه. ومع تكرار هذه الحالات، يترسخ نوع من الوعي السلبي الجمعي مفاده أن النجاح لا يتحقق إلا خارج البلاد. وهذا أخطر ما في الظاهرة، لأنه يحوّل الهجرة من خيار اقتصادي إلى ثقافة اجتماعية مكرّسة تهدد مفهوم المواطنة ذاته.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب أكثر من حلول مؤقتة، بل رؤيا وطنية متكاملة تعيد صياغة العلاقة بين الدولة وشبابها على أسس العدالة والفرص والكرامة: (1) تحقيق العدالة في التوظيف (2) إعادة توجيه التعليم العالي نحو احتياجات الاقتصاد الوطني، وربط مخرجات الجامعات بالمشاريع الإنتاجية (3) تحفيز بيئة البحث والابتكار من خلال دعم مالي وتشريعي حقيقي للكفاءات الشابة (4) تبنّي سياسات للهجرة الدائرية بحيث يعود المغترب بخبرته إلى وطنه ضمن برامج واضحة للاستفادة منه (5) ترسيخ قيم الانتماء والمسؤولية الوطنية ليس عبر الإعلام والتعليم لأن حب الوطن لا يُطلب بالخطاب، بل يُبنى بالثقة والعدالة.
إنّ مِن أخطر التحديات التي يمكن أن يواجهها أي وطن هو أن يفقد أبناءه المبدعين لأنهم لم يجدوا فيه فرصة للحياة الكريمة.
الهجرة ليست عيبا في ذاتها، فالتنقل واكتساب الخبرات جزء من حركة التطور الإنساني، لكن الخطر أن تصبح الهجرة هروبا دائما بدل أن تكون تجربة عابرة.
الأردن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستعيد ثقته بشبابه ويمنحهم أسباب البقاء والإبداع، أو أن يستمر في فقدان عقول هي أثمن من أي مورد طبيعي. فالأوطان تُبنى بالعقول، وتنهض بالإرادة، وتبقى فقط حين يشعر أبناؤها أن لا كرامة لهم إلا فيها.
د. هيثم علي حجازي
رئيس ديوان الخدمة الأسبق / أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-10-2025 01:18 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||