29-10-2025 08:58 PM
سرايا - هل كنت تعلم أن أول فيلم رسوم متحركة في العالم العربي خرج من مصر؟
كان فيلماً قصيراً بعنوان "مفيش فايدة، مشمش أفندي" أنتج عام 1936، وتلاه عدد من الأفلام القصيرة التي شكّلت سلسلة كاملة لشخصية مشمش أفندي.
قصة هذا البطل المنسي خرجت من أرشيف قبو في أحد منازل فرنسا، حيث تحتفظ عائلة فرنكل - وهي عائلة يهودية مصرية هاجرت بعد عام 1948 - بتراث سينمائي فريد يعود إلى تلك الفترة.
لكن حكاية مشمش لم تبدأ في مصر ولا في فرنسا، بل تعود جذورها إلى الإمبراطورية الروسية عام 1881، حيث بدأت رحلة الإخوة فرنكل قبل أن تقودهم إلى القاهرة ويكتبوا فصلاً مبكراً من تاريخ الرسوم المتحركة في العالم العربي.
في العادة يُحتفل باليوم العالمي للرسوم المتحركة في 28 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام نسبة لتاريخ عرض أول عمل رسوم متحركة في التاريخ بعنوان "المسكين بيارو"، للمخترع الفرنسي إميل رينولدز عام 1892.
لكن ماذا نعرف عن أول عمل رسوم متحركة عربي؟ هذه هي حكاية "مشمش أفندي".
من روسيا إلى يافا والاسكندرية
في عام 1881، اغتيل قيصر روسيا ألكسندر الثاني على يد جماعة ثورية تعرف باسم "إرادة الشعب" (نارودنايا فوليا). وكانت بين منفذي الاغتيال شابة يهودية تدعى هيسيا هيلفمان، استخدم انتماؤها الديني ذريعةً لشنّ حملة من الاعتداءات الطائفية ضد اليهود في أنحاء مختلفة من الإمبراطورية الروسية.
ورغم القبض على أعضاء الجماعة وإعدامهم، استمرت موجة العنف والكراهية في عهد القيصر ألكسندر الثالث لسنوات عدّة، ما دفع أعداداً كبيرة من اليهود إلى الهجرة من روسيا نحو أوروبا الغربية وفلسطين ومصر.
من بين هؤلاء المهاجرين بيزاليل فرنكل وزوجته جينزا من بيلاروسيا، اللذان غادرا الإمبراطورية الروسية عام 1905 واستقرّا في مدينة يافا. غير أن العائلة وجدت نفسها بعد عقد واحد في قلب أحداث الحرب العالمية الأولى، حين كانت فلسطين تحت حكم السلطنة العثمانية التي كانت طرفاً في الحرب.
غادر بيزاليل مع أسرته يافا بحراً متجهاً إلى الإسكندرية التي كانت آنذاك محطةً رئيسية للمهاجرين القادمين من شرق أوروبا. وهناك بدأت العائلة فصلها المصري الجديد.
أقام بيزاليل في الإسكندرية سنوات عدّة مع زوجته وأطفاله الستة - ثلاث فتيات وثلاثة فتيان - وعمل في صناعة المفروشات، فحصل على جائزة من اللجنة الزراعية الملكية المصرية عن أفضل تصميم لغرفة نوم.
وقبل مجيئه إلى مصر، عمل بيزاليل مصوراً فوتوغرافياً، فورث عنه أبناؤه شغف الصورة والفن.
وفيما بعد، سيعرف المصريون أبناءه الثلاثة شلومو ودافيد وهرتشل باسم الإخوة فرنكل الذين سيصبحون لاحقاً من روّاد الرسوم المتحركة في العالم العربي، ويلقبون بـ "والت ديزني مصر".
ميكي ماوس في مصر
كانت مصر أول دولة عربية تدخلها صناعة السينما، بدءاً من صالات العرض التي ازدهرت في القاهرة والاسكندرية في عشرينيات القرن الماضي، مروراً بانتشار استوديوهات التصوير والإنتاج المحلي الذي أسس لحركة فنية ناشئة آنذاك.
في تلك الفترة، كانت المدينة الساحلية مركزاً ثقافياً مفتوحاً على العالم، تستقبل الأفلام الأمريكية والفرنسية والإيطالية وتعرضها لجمهور متعطّش للتجديد.
وفي عام 1928، كشف المنتج الأمريكي والت ديزني عن شخصية ميكي ماوس في فيلمه الشهير Steamboat Willie، الذي كان من أوائل الأفلام الناطقة بالرسوم المتحركة.
عرض الفيلم لاحقاً في دور السينما المصرية، حيث شاهده الإخوة فرنكل للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة بالأبيض والأسود. وقد تركت تلك المشاهدة أثراً عميقاً فيهم، إذ أدركوا الإمكانيات الهائلة لفنّ التحريك في المزج بين الموسيقى والكوميديا والسرد البصري.
كانت شخصية ميكي ماوس في بداياتها، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أيقونة عالمية. ومن هنا، قرر الإخوة شلومو ودافيد وهرشيل فرنكل أن يبتكروا شخصية مصرية مماثلة قادرة على مخاطبة الجمهور المحلي بروح قريبة من ثقافته ولهجته.
بدأت التجارب في مشغل والدهم في الإسكندرية الذي تحول تدريجياً إلى ورشة فنية صغيرة. كان الإخوة يرسمون الإطارات واحداً تلو الآخر، مستخدمين أدوات بسيطة وكاميرا تصوير يدوية الصنع.
في ذلك المكان ولدت أولى الرسومات التي ستتحوّل لاحقاً إلى شخصية مشمش أفندي، الرجل المصري الطيب والمشاكس الذي يجسد ملامح المجتمع في تلك الحقبة.
ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الورشة نواة أول استوديو عربي للرسوم المتحركة، سبق ظهوره تأسيس أي صناعة مماثلة في المنطقة، لتبدأ من مصر قصة الريادة في عالم لم يكن مألوفاً بعد لدى الجمهور العربي.
"مفيش فايدة"
امتلك كل واحد من الإخوة الثلاثة موهبة خاصة، فكان شلومو تقنياً ماهراً في آلات التصوير، بينما برع ديفيد في الرسم والتحريك، وتولى هرتشل لاحقاً مهام الإنتاج والتسويق.
ابتكر شلومو آلة تصوير خاصة صممها خصيصاً لتنفيذ مشروعهم في إنتاج أفلام الرسوم المتحركة. في المراحل الأولى، عمل الإخوة جنباً إلى جنب داخل مشغل العائلة، وكانت معظم الرسومات مستوحاة من شخصية ميكي ماوس التي كانت آنذاك مصدر الإلهام الأول لهم.
هكذا ولدت أولى شخصياتهم الكرتونية، قرد يدعى ماركو، غير أن التجربة الأولى لم تحقق النجاح المتوقع، إذ لم يجد المشاهدون في ماركو ما يعكس روح الشخصية المصرية أو تفاصيل الحياة اليومية التي أرادوا مشاهدتها على الشاشة.
في تلك الفترة، بدأ الإخوة فرنكل البحث عن تمويل لتطوير عملهم، فتوجهوا إلى طلعت باشا حرب، مؤسس "بنك مصر" وصاحب "ستوديو مصر للأفلام" الذي كان يعرف بلقب أبو الاقتصاد المصري.
لكن اللقاء الأول لم يثمر، إذ رفض طلعت حرب تمويل المشروع قائلاً عبارته الشهيرة: "مفيش فايدة". وفي المرة الثانية التي حاول فيها الإخوة إقناعه، رد قائلاً: "بكرا في المشمش"، وهي العبارة المصرية الدارجة التي تقال للدلالة على استحالة تحقيق الطلب أو تأجيله إلى أجل غير معلوم.
ولادة النجم الجديد
إصرار الإخوة فرنكل على إنجاز حلمهم دفعهم إلى تمويل مشروعهم ذاتياً من أموال العائلة ومدخراتها. انكب الأشقاء الثلاثة على العمل مستخدمين آلات اخترعوها وطوروها بأنفسهم، ليضعوا حجر الأساس لصناعة جديدة في مصر والمنطقة.
بعد نحو تسع سنوات على مشاهدتهم الأولى لفيلم ميكي ماوس، أصدر الإخوة فرنكل باكورة أعمالهم بعنوان "مفيش فايدة، مشمش أفندي". استلهموا عنوان الفيلم من العبارات التي قالها طلعت باشا حرب حين رفض تمويل مشروعهم، فكان الاسم في حد ذاته رداً فنياً ساخراً على موقفه.
ظهر مشمش أفندي كشخصية مصرية مرحة، شاب نحيف يرتدي طربوشاً تقليدياً، واسع العينين وخفيف الظل، يتحدث باللهجة المصرية العامية ويتقن الغناء والرقص. استوحى الإخوة ملامحه من رسومات الكاريكاتور المنتشرة في الصحف المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي كانت تصور الطبقة الوسطى بروح ساخرة.
لاحقاً، تطورت الشخصية واكتسبت ملامح أكثر واقعية، فأصبح مشمش أقرب في شكله إلى المونولوجيست المصري أحمد متولي الذي أدى صوته وغنّى على لسانه في أفلام الإخوة فرنكل.
حقق مشمش نجاحاً واسعاً بعد الفيلم الأول الذي ظهرت فيه شخصية بهية، الفتاة المصرية التي تأسر قلبه، ليصبح بعدها الشخصية الرئيسية في معظم أعمال الإخوة.
حملت أفلامه رسائل اجتماعية وتوعوية، مثل فيلم "مفيش مخ" الذي تناول السلوك المروري برعاية النادي الملكي للسيارات، وفيلم "مشمش أفندي في الدفاع الوطني" الذي أنتج برعاية وزارة الدفاع وشجّع المصريين على التطوع وجمع التبرعات للجيش خلال الحرب العالمية الثانية.
ومع ازدياد شعبيته، ظهر مشمش إلى جانب نجوم الشاشة في ذلك العصر، من بينهم الفنانة اللبنانية صباح والراقصة تحية كاريوكا. كانت جميع هذه الأعمال، وغيرها، تحمل توقيع "أفلام الإخوة فرنكل"، الذين كتبوا بها فصلاً مصرياً رائداً في تاريخ الرسوم المتحركة العربية.
الرحلة الأخيرة
لم يتوقف الإخوة فرنكل عن الإبداع، إذ انتقلوا إلى القاهرة حيث ازدهرت أعمالهم وذاع صيتهم في الأوساط الفنية والثقافية. كان حضورهم في السينما المصرية لافتاً، حتى إن شلومو اخترع آلة عرض صغيرة يمكن نقلها من مكان إلى آخر، ما أتاح لهم عرض أفلام مشمش أفندي في مختلف دور السينما والمقاهي والمسارح الشعبية.
لكن مسار النجاح انقطع فجأة مع اندلاع حرب عام 1948 ووصول أصدائها إلى مصر، حين شارك الجيش المصري ضمن قوات جيش الإنقاذ العربي التي أُرسلت لدعم الفلسطينيين.
في الوقت نفسه، بدأت موجة من التحريض والتخوين ضد أبناء الطائفة اليهودية في مصر، شملت اعتداءات ومصادرة لممتلكات، ما اضطر كثيرين منهم إلى الهجرة.
كانت عائلة فرنكل من بين هؤلاء. حمل الإخوة كل ما استطاعوا إنقاذه من معداتهم وأفلامهم ورسوماتهم، وغادروا مصر بحراً إلى مرسيليا في جنوب فرنسا. من هناك، قرروا مواصلة حياتهم في العاصمة باريس التي كانت آنذاك مركزاً للفنون البصرية والتقنيات الحديثة في السينما.
استقرت العائلة في بلدة مونجيران الواقعة على بعد نحو 19 كيلومتراً جنوب شرقي باريس، حيث حاول الإخوة الثلاثة استئناف نشاطهم الفني وإعادة بناء استوديو الرسوم المتحركة الذي فقدوه في مصر. كانت تلك بداية الرحلة الأخيرة في مسيرتهم، رحلة الغربة التي أنهت فصلاً مصرياً فريداً من تاريخ الإبداع السينمائي العربي.
مشمش يخلع طربوشه
دار الإخوة فرنكل على استوديوهات فرنسا حاملين معهم أعمالهم التي كانت قد حققت شهرة واسعة ونجاحاً باهراً في مصر. لكن عندما عرضوا سلسلة أفلام مشمش على المنتجين الفرنسيين، لم تحظَ بأي اهتمام يذكر.
مرة أخرى وجد الإخوة الثلاثة أنفسهم أمام تحدّ جديد لإثبات قدراتهم في بلد يشهد بدوره نهضة في مجال الإنتاج السينمائي. وكان عليهم هذه المرة أن يتوجهوا للجمهور الفرنسي، تماماً كما خاطبوا الجمهور المصري بشخصية مشمش.
هكذا ولدت شخصية ميميش، شاب يحتفظ بملامح مشمش نفسها تقريباً لكن بوجه أكثر استدارة، واستبدل الطربوش المصري بقبعة فرنسية تقليدية، وبدأ يتحدث بالفرنسية.
ومع ذلك، لم يستطع ميميش الانفصال تماماً عن شخصية مشمش، إذ ظل الأثر المصري واضحاً في المشاهد وروح الحكايات، وكأن الحنين إلى القاهرة ظل يرافق الإخوة أينما ذهبوا.
لم يحقق ميميش النجاح نفسه الذي عرفه مشمش في مصر، لكن الإخوة فرنكل لم يفقدوا شغفهم. رفضوا ترك عالم السينما أو العمل في مهن أخرى، وقرروا خوض محاولة جديدة.
هذه المرة راهنوا على إنتاج فيلم رسوم متحركة بالألوان، بطلته فتاة تدعى جيني، على اسم ابنة شلومو الكبرى، وكان عنوان العمل "أحلام الدانوب الأزرق الجميل".
أنفق الإخوة كثيراً من مدخراتهم ووقتهم لإتمام المشروع، ونال العمل إعجاب المنتجين الذين وعدوا بتوزيعه وعرضه. غير أن الفيلم لم يعرض قط، ولا يعرف السبب الدقيق وراء ذلك.
كانت تلك المحاولة الأخيرة لاستعادة مجد أفلام الإخوة فرنكل الذي عرفته مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ومع مرور السنين، رحل هرتشل عام 1972، ثم ديفيد عام 1994، فيما احتفظ شلومو بأرشيف العائلة وأفلامها في قبو منزله حتى وفاته عام 2001، لتطوى بذلك صفحة أحد أهم فصول الريادة السينمائية في العالم العربي.
عودة مشمش
تزوج شلومو فرنكل من مارسيل التي تعرّف عليها في القاهرة، وأنجب منها ثلاثة أبناء. وبعد وفاته، نزل ابنه ديدييه إلى قبو منزل العائلة في فرنسا ليلقي نظرة على صناديق قديمة مغطاة بالغبار احتفظ بها والده لعقود طويلة.
هناك، وجد بكرات أفلام وأدوات تصوير بدائية صدئت مع الزمن، إضافة إلى رسائل ورسومات وملصقات وقصاصات صحف، جميعها تحمل صورة واسم مشمش أفندي. أدرك ديدييه أنه أمام كنز منسي يوثق قصة عائلته ودورها في صناعة أول أفلام الرسوم المتحركة في العالم العربي.
استعان ديدييه بخبراء من المعهد الفرنسي للسينما لترميم البكرات ومشاهدة محتواها، فظهرت أمامه حكاية مشمش بكل تفاصيلها، إلى جانب السيرة المجهولة لعائلة فرنكل التي صنعت تاريخاً سينمائياً فريداً في مصر خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
لاحقاً، شارك ديدييه في الفيلم الوثائقي الفرنسي الإسرائيلي "بكرا في المشمش" الذي استعاد قصة الإخوة فرنكل وهجرتهم من مصر، كاشفاً جانباً من تاريخ فني ظل طي النسيان لعقود.
وفي مصر، عاد اسم مشمش أفندي إلى الواجهة من خلال برنامج "صاحبة السعادة" الذي تقدمه الفنانة إسعاد يونس، حيث عرض جزء من الأرشيف الموسيقي لأعمال الإخوة فرنكل باعتبارها جزءاً من التراث الفني المصري.
رغم بساطة الأدوات التي استخدمها الإخوة الثلاثة في أعمالهم، يرى النقاد أن ما قدموه من ابتكار تقني وفني يعد إنجازاً استثنائياً بمعايير زمنه.
وقد صدرت عدة كتب ودراسات عن تاريخ عائلة فرنكل، إلى جانب الفيلم الوثائقي العربي "مشمش أفندي" الذي قدم شهادات لمؤرخين ونقاد مصريين عن أول شخصية كرتونية في تاريخ السينما المصرية والعربية.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
29-10-2025 08:58 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||