12-06-2025 09:01 AM
بقلم : ماجد الفاعوري
يمثل الأردن واحدة من أكثر التجارب السياسية استثنائية في المنطقة العربية إذ استطاع على مدار قرن من الزمان أن يحافظ على استقراره الداخلي وسط محيط مضطرب مليء بالحروب والانقلابات والثورات غير أن هذا الاستقرار الظاهري يخفي وراءه أزمة عميقة ومتجذرة تتعلق بجوهر الدولة الأردنية وهويتها الوطنية إنها الأزمة الصامتة التي لم تحظَ حتى اليوم بنقاش وطني شامل وجريء أزمة الهوية الوطنية الأردنية التي تهدد اليوم العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها وتنذر بأن تدفع المملكة إلى مسارات أكثر تعقيدًا في المستقبل القريب
الجذور التاريخية للأزمة
يعود أصل أزمة الهوية الوطنية الأردنية إلى لحظة تأسيس الإمارة عام 1921 حين وُلد الكيان السياسي الأردني نتيجة ترتيبات إقليمية ودولية لا كنتيجة لحركة وطنية داخلية تجمع مكونات المجتمع المحلي من عشائر وقبائل ومجتمعات مدنية فقد اعتمدت شرعية الدولة منذ نشأتها على شرعية العرش الهاشمي والدور الإقليمي الذي تلعبه المملكة لا على مشروع وطني يعبر عن جميع مكوناتها
تفاقمت هذه المعضلة بعد نكبة فلسطين عام 1948 عندما دخلت أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين إلى شرق الأردن ثم ضُمّت الضفة الغربية لاحقًا إلى المملكة لتصبح الدولة متعددة المكونات السكانية دون مشروع سياسي واجتماعي يدمج الجميع في هوية وطنية واحدة وبدل أن تُبنى هذه الهوية على أسس المواطنة الجامعة ظلت الدولة تحكمها ثنائية شرق أردني ـ فلسطيني معززة بحساسيات تاريخية ومناطقية زادت الفجوة المجتمعية تعمقًا
وفي هذا السياق يذكر السياسي والمفكر الأردني الراحل عدنان أبو عودة في مذكراته أن الدولة الأردنية نشأت على قاعدة ضبابية للهوية الوطنية وظلت تعاني من أزمة تعريف داخلي جعلتها تتأرجح بين الوطني والقومي بين الفلسطيني والشرق أردني بين المحلي والإقليمي
غياب المشروع الوطني الجامع
منذ الاستقلال عام 1946 وحتى اليوم لم تنجح الدولة الأردنية في بناء مشروع وطني جامع يعيد تعريف الهوية الأردنية بشكل حديث يتجاوز الانقسامات التاريخية والهويات الفرعية وقد ظلت السلطة تعتمد طويلًا على بنية إدارية عشائرية وبيروقراطية ترتكز على الولاءات المحلية بدلًا من تطوير نموذج سياسي حديث قائم على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين
يرى وزير التنمية السياسية الأسبق بسام العموش أن غياب الإرادة السياسية لصياغة عقد اجتماعي جديد جعل الهوية الوطنية الأردنية هشّة وقابلة للاهتزاز عند كل أزمة ما ولّد حالة من القلق المستمر لدى المكونات المختلفة في المجتمع
التحديات الديمغرافية والإقليمية
واجه الأردن خلال العقود الأخيرة تحديات ديمغرافية معقدة زادت من تعقيد مسألة الهوية الوطنية بدءًا من تدفق اللاجئين العراقيين بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وصولًا إلى دخول أكثر من مليون لاجئ سوري بعد اندلاع الأزمة السورية في 2011 ما أدى إلى تغييرات سكانية هائلة زادت من الضغط على الاقتصاد والبنية التحتية وأضعفت التماسك الاجتماعي في ظل غياب رؤية واضحة لإدارة التنوع السكاني المتصاعد
وبحسب دراسة صادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية عام 2023 فإن
42% من الشباب الأردني لا يشعرون بأنهم جزء من مشروع الدولة ولا يثقون بقدرتها على تمثيلهم سياسيًا واقتصاديًا وهو مؤشر خطير يعكس حجم الفجوة بين الدولة والمجتمع
دور القوى العابرة للحدود (الاخوان المسلمين ، التيارات القومية)
كان لوجود القوى الإسلامية العابرة للحدود مثل جماعة الإخوان المسلمين والحركات السلفية الجهادية دور سلبي في إضعاف الانتماء للدولة الوطنية إذ عملت هذه القوى على ربط جزء من الشارع الأردني بمشاريع أيديولوجية خارجية سواء إسلامية أو قومية ما جعل الهوية الوطنية تعيش حالة من التآكل الرمزي رغم حضور الدولة القوي على المستوى الأمني والإداري
المفكر برهان غليون حذّر ذات مرة قائلًا إذا لم تعترف الدولة الوطنية العربية بتعددية مجتمعاتها وتدِرها بحكمة فهي تتحول إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار
وهذا الوصف ينطبق بدقة على الحالة الأردنية التي ما زالت تتعامل مع أزمة الهوية بأسلوب التسكين لا المعالجة
أبعاد فقدان الهوية الوطنية
غياب الهوية الوطنية الأردنية لا يعني فقط غياب الرموز والشعارات بل يعني تفكك الإحساس بالمصير المشترك وانعدام الثقة المتبادلة بين الدولة ومواطنيها إذ يبدأ المواطن بالانسحاب نحو هوياته الفرعية من عشائرية ومناطقية وطائفية ومصلحية فيصبح الولاء للدولة مسألة مصلحية لا عاطفية ما يفقد الدولة معناها الرمزي ويحولها إلى مجرد كيان إداري هش
يدخل الأردن قرنه الثاني وهو يقف أمام تحدٍ مصيري يتمثل في إعادة تعريف هويته الوطنية الأردنية بشكل عادل وشامل يعترف فيها بأصحاب الأرض وشرعيتهم يصحح فيها العلاقة في الملفات العالقة ويصوغ عقدًا اجتماعيًا جديدًا قائمًا على المواطنة والمساواة والإنصاف وإلا فإنه سيظل يدير أزماته الداخلية بمسكنات قصيرة المدى حتى لحظة الانفجار التي قد تأتي في أي وقت
كما قال الشاعر حيدر محمود :
"هذا الوطن ليس حقيبة ونحن لسنا مسافرين"
إنها معركة بقاء لا معركة شعارات والمطلوب اليوم من الدولة ونخبها السياسية والفكرية أن تنخرط في حوار وطني صادق يعيد بناء الهوية الوطنية الأردنية بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح الآنية لأن هذه المهمة ليست ترفًا سياسيًا بل ضرورة وجودية لضمان استمرار الدولة واستقرارها في العقود القادمة
نريد ان نرى مستقبلا يصنع الابتكار لا الخطابات
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
12-06-2025 09:01 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |