11-10-2025 09:18 PM
بقلم : د. رأفت غالب البيايضة
في ميزان الحروب، لا يُقاس النصر بعدد الطلقات ولا بحجم الدمار، بل بنوعية التسوية التي تُنهي المعركة وتُعيد رسم ملامح القوة على الأرض. فالتاريخ يُعلّمنا أن الحروب تنتهي على ثلاثة أشكال من التسويات: تسوية المنتصر، وتسوية المستنزَف، وتسوية الضغوط الدولية. وما يجري اليوم في غزة يعيد إلى الأذهان الصورة الأولى، تسوية الاستنزاف، التي تشبه إلى حد بعيد ما حدث بين الولايات المتحدة وفيتنام.
رغم التفوق الأمريكي الساحق تكنولوجيًا وعسكريًا، اضطرت واشنطن إلى الانسحاب من فيتنام تحت وطأة حرب طويلة أنهكت اقتصادها وكسرت هيبتها أمام الرأي العام العالمي. فيتنام لم تنتصر عسكريًا، لكنها نجحت في فرض معادلة الإنهاك على خصمها حتى أصبح البقاء أكثر كلفة من الرحيل، فكان الانسحاب هو “التسوية” الوحيدة الممكنة.
النموذج الثاني في التاريخ كان أردنيًا خالصًا، في معركة الكرامة الخالدة عام 1968، حين أوقف الجيش العربي الأردني الهجوم الإسرائيلي ببسالة نادرة، ورفض وقف إطلاق النار إلا بعد انسحاب آخر جندي صهيوني من أرض المعركة. كانت تلك تسوية المنتصر، حيث خرج الأردن شامخًا بنصر ميداني رفع المعنويات وأعاد للأمة ثقتها بنفسها بعد هزيمة 1967.
أما التسوية الثالثة، فكانت نتاج الضغوط الدولية، كما حدث في حرب أكتوبر 1973. فبعد عبور الجيش المصري لقناة السويس وتحطيم خط بارليف، حاولت إسرائيل الاستمرار في القتال، لكن تدخل القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة أرغمها على وقف العمليات، وبدأت التسوية السياسية التي انتهت بانسحابها من سيناء.
اليوم، وبعد حرب طاحنة على غزة، تبدو إسرائيل أمام واقع لم تكن تتوقعه. فصائل المقاومة الفلسطينية، برغم الحصار والقصف والتدمير، استطاعت أن تُجبر تل أبيب على الدخول في تسوية من نوع “الاستنزاف”، تمامًا كما حدث في فيتنام. لم تكن هزيمة عسكرية لإسرائيل بمعناها التقليدي، لكنها كانت استنزافًا طويل الأمد لقواها البشرية والاقتصادية والسياسية، حتى وجدت نفسها مضطرة إلى القبول بتسوية لا تشبه نصر المنتصر، بل تشبه انسحاب المنهك.
لقد فُرضت هذه التسوية فالمقاومة لم تستسلم، ولم ترفع الراية البيضاء، بل أثبتت أن الإرادة والعقيدة يمكن أن توازن الصواريخ والدبابات. وهكذا، حققت غزة نصرًا من نوع آخر: نصر المستنزِف على المتفوق.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-10-2025 09:18 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |