18-09-2025 06:32 PM
بقلم : د. هيثم علي حجازي
تقوم الموارد البشرية دورا بدور حيوي في عملية إصلاح القطاع العام، أي قطاع عام، إذ تُعتبر القوة المحركة وراء أي تغيير إداري أو تنظيمي. ونجاح الإصلاحات يعتمد بشكل كبير على كفاءة العنصر البشري وقدرته على تنفيذ السياسات الجديدة وتبني ثقافة العمل الحديثة. وبوجود إدارة فاعلة للموارد البشرية يمكن تطوير الكفاءات، وتحسين الأداء، وتبني ممارسات الشفافية والمساءلة التي تعزز ثقة المواطن بالمؤسسات العامة.
كما أن الاستثمار في تدريب وتأهيل الموظفين العموميين يساهم في رفع مستوى الخدمة المقدمة للمواطنين، والحدّ من الممارسات البيروقراطية الخاطئة، وزيادة كفاءة استخدام الموارد. وبالإضافة إلى ذلك، تسهم سياسات الموارد البشرية العادلة في خلق بيئة عمل إيجابية تقلل من مقاومة التغيير، وتدعم الابتكار والمبادرات التطويرية. وبالتالي، فإن إصلاح القطاع العام لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا إذا كان مقترنا بإصلاح عميق وشامل لإدارة الموارد البشرية.
منذ عقود يخوض الأردن محاولات متكررة لتطوير القطاع العام عبر برامج إصلاح متتالية، تهدف إلى تحديث البنية المؤسسية، وتبسيط الإجراءات، وتعزيز كفاءة الخدمات العامة. وبرغم أن هذه الجهود مشروعة وضرورية، فإن نتائجها لم تصل الى المستوى المطلوب، ولعل السبب في ذلك يكمن في أن الإصلاحات ركّزت بشكل كبير على الجانب الإجرائي والتنظيمي، فيما تم إغفال البعد الأهم والأكثر تأثيرا، وهو المورد البشري. فالموظف هو العمود الفقري لأي مؤسسة، وهو من يترجم السياسات إلى واقع ملموس. فإذا لم يكن هذا الموظف محفَّزا، وعاملا في بيئة عادلة وصحية، فإن أي إصلاح تشريعي أو تنظيمي سيظل قاصرا، وهذا يعني بشكل أو بآخر أن الإصلاح الإداري يحتاج إلى إعادة تموضع يضع الإنسان في قلب العملية الإصلاحية.
لقد كان التركيز الأكبر في برامج الإصلاح على إعادة الهيكلة، وتعديل التشريعات، وإدخال التكنولوجيا. وهذه كلها خطوات لا غنى عنها، لكنها تمثل نصف الطريق فقط. فالنصوص والقوانين ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتمكين الإنسان من العمل بكفاءة. لكن تجاهل دور المورد البشري جعل الكثير من هذه الإصلاحات دون المأمول، لأن الموظفين الذين يُفترض أن ينفذوا تلك الإصلاحات لم يجدوا أنفسهم شركاء فيها، ولم يشعروا أن هذه الإصلاحات تمس واقعهم الوظيفي بشكل إيجابي.
من أبرز ما أغفلته برامج الإصلاح هو بيئة العمل. عندما نتحدث عن الإصلاح الإداري، فإن التركيز غالبا ينصب على الهياكل والأنظمة، بينما تبقى بيئة العمل بعيدة عن دائرة الاهتمام، رغم أنها المحدد الحقيقي لرضا الموظفين وإنتاجيتهم. وبيئة العمل هي منظومة متكاملة لها أبعاد متعددة: (1) البعد المادي ويتعلق بالمكان الذي يعمل فيه الموظف، من حيث الإضاءة، والتهوية، والأثاث، ومستوى السلامة المهنية، والمساحات المتاحة لكل موظف (2) البعد التنظيمي ويشمل وضوح الأنظمة والإجراءات، وشفافية تقييم الأداء، وتوزيع الأدوار، والمرونة الإدارية. فكلما كانت التشريعات واضحة وعادلة، شعر الموظف بالثقة في مؤسسته (3) البعد الاجتماعي ويعكس العلاقات داخل المؤسسة، سواء بين الزملاء أو بين الموظف وإدارته. كما أن التعاون، الدعم المتبادل، وبناء روح الفريق عوامل أساسية تجعل الموظف أكثر انتماءً وحماسا. يضاف الى ذلك قضايا أخرى تتمثل في: البعد النفسي والبعد الثقافي والقيمي. إن غياب هذه الأبعاد أو بعضها من برامج الإصلاح الإداري يؤدي إلى بيئة طاردة، ترفع مستويات الإحباط والاحتراق الوظيفي، وتضعف ولاء الموظفين، بينما الإصلاح الحقيقي لا يكتمل إلا ببيئة عمل متوازنة تراعي جميع هذه الأبعاد، وتضع الإنسان في مركز العملية الإصلاحية.
ومن أبرز ما أغفلته برامج الإصلاح الإداري أيضا مفهوم العدالة التنظيمية، الذي يُعد أحد أهم ركائز نجاح المؤسسات الحديثة. فالعدالة ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي منظومة إدارية متكاملة تضمن شعور الموظف بالإنصاف في كل ما يتعلق بعلاقته بمؤسسته. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن العدالة التنظيمية ترتبط بشكل مباشر برضا الموظفين، وانتمائهم، ومستوى عطائهم. وعند الحديث عن العدالة المؤسسية يجب عدم إغفال جوانبها الرئيسية المتمثلة في (1) العدالة التوزيعية التي تعني شعور الموظف بأن المخرجات التي يحصل عليها، مثل الأجور والحوافز والترقيات، تُوزع بشكل عادل يتناسب مع جهده وإسهامه. فالمساواة المطلقة ليست عدالة، بل العدالة أن يحصل كل موظف على ما يستحقه وفق عطائه (2) العدالة الإجرائية: وتتمثل في عدالة وشفافية الإجراءات التي تُتخذ داخل المؤسسة، مثل آليات التقييم والترقية واتخاذ القرارات. حتى وإن لم يحصل الموظف على النتيجة التي يتوقعها، فإن شعوره بأن الإجراءات كانت عادلة يجعله أكثر قبولًا لها (3) العدالة التفاعلية وهي البعد المتعلق بكيفية معاملة الإدارة لموظفيها، إذ يتوقع الموظف أن يُعامل باحترام وكرامة، وأن يتم التواصل معه بأسلوب إنساني بعيد عن التعالي أو الإقصاء. إن غياب هذه الأبعاد يؤدي إلى نتائج كارثية مثل: ضعف الانتماء المؤسسي، وانخفاض مستويات الإنتاجية، وتفشي ثقافة الإحباط واللامبالاة، بل وأحيانا لجوء الموظفين إلى سلوكيات سلبية مثل مقاومة التغيير أو الانسحاب الصامت. إن أي إصلاح إداري لن يُكتب له النجاح إذا لم يجعل العدالة التنظيمية في صلبه.
اليوم، بات العالم من حولنا يقيس مؤشرات السعادة الوظيفية بوصفها معيارا لنجاح المؤسسات. فالموظف السعيد أكثر التزاما وإبداعا، بينما الموظف المحبط يتحول إلى عبء. ويلاحَظ أن هذا المفهوم لم يدخل بقوة إلى برامج الإصلاح، فلا نجد خططا واضحة لإحداث التوازن بين الحياة والعمل، ولا برامج للدعم النفسي والاجتماعي، ولا سياسات للمرونة الوظيفية. وغياب هذه القضايا يجعل الموظف يعيش ضغوطا متراكمة تُضعف من إنتاجيته وتزيد من معدلات الاستنزاف الوظيفي.
والإصلاح الإداري لا يُفرض من الأعلى فقط، بل يُبنى من خلال إشراك الموظفين في صياغة الحلول. فالموظف الذي يشعر أن رأيه مسموع يصبح أكثر التزاما بالقرارات. أما الموظف الذي يُقصى عن المشاركة، فإنه يميل إلى مقاومة الإصلاح أو التعامل معه ببرود. والمشاركة في القرار ليست مجرد إجراء، بل هي وسيلة لإعادة بناء الثقة بين الإدارة والموظفين.
ومما ينبغي الانتباه إليه في برامج الإصلاح الإداري قضية الاحتراق الوظيفي. فالموظف الذي يعيش ضغوطا متواصلة، ولا يحصل على تقدير أو دعم، يصل إلى مرحلة من الإرهاق النفسي والجسدي تجعله غير قادر على العطاء. وهذا الاحتراق لا يلحق الضرر بالموظف فقط، بل يرفع كلف العلاج والتأمين، ويزيد من الغياب والتسرب الوظيفي. وتجاهل هذه الظاهرة يعني خسارة صامتة ومستمرة لأي مؤسسة.
وإلى جانب الاحتراق الوظيفي، فإن الصحة النفسية للموظف ما تزال خارج أولويات الإصلاح، علما أن الموظف يحتاج إلى دعم معنوي، وإلى برامج استشارية تساعده على التعامل مع الضغوط. ومثل هذا الدعم ليس رفاهية، بل ضرورة لتعزيز الاستقرار والإنتاجية.
إن الإصلاح لا يكتمل بوجود تشريعات جيدة فقط، بل يحتاج إلى قيادات قادرة على الإلهام والتحفيز، فالقيادة التقليدية القائمة على الأوامر لم تعد صالحة لعصر المؤسسات الحديثة.
ومن أهم ما تحتاجه المؤسسات في برامج الإصلاح الاداري التواصل الداخلي الفاعل. فغياب قنوات واضحة للحوار يؤدي إلى وجود فجوة في الثقة بين الإدارة والموظفين، في حين أن التواصل الشفاف يجعل الأهداف أكثر وضوحا لكل أفراد المؤسسة، ويزيد الالتزام الجماعي.
هذه بعض من القضايا التي أغفلتْها برامج الإصلاح الإداري لعقود طويلة. والإصلاح الإداري في أي بلد كان بحاجة إلى رؤيا شمولية تُوازن بين الأنظمة والإنسان، لأن الأنظمة وحدها لا تكفي، والإنسان وحده لا يستطيع الإنجاز. ولذلك، فإن التوازن بينهما هو الذي يخلق مؤسسة حديثة قادرة على التطوير والاستدامة.
الوقت قد حان لأن تكون الموارد البشرية في قلب الإصلاح الإداري، لأن الإصلاح يبدأ من الإنسان، وبدونه يبقى مجرد شعارات تتكرر دون أثر حقيقي.
رئيس ديوان الخدمة المدنية الأسبق / أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-09-2025 06:32 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |