15-11-2025 09:51 AM
بقلم : م. علاء فخري عبيدات
ربما يحق لي أن أعتبر نفسي شاهداً على منعطفات حادة شكّلت لدي وعي اقتصادي مبكر، وعلمتني أن إدارة الأزمات لا تبدأ بعد وقوعها بل قبلها، وعاصرتُ أزمة هبوط الدينار مقابل الدولار عام 1989، وتأثير حرب الخليج على الأردن، وتابعتُ من ميادين الغربة سيمفونية الخصخصة وهي تُغري صُنّاع القرار تحت شعار "الطريق إلى جهنم مُعبد بالنوايا الحسنة"، ولهذا فإن قراءة الموازنة الأردنية للعام 2026 لا يمكن أن تكون بمعزلٍ عن تراكمات ممتدة منذ عقود.
تأتي الموازنة الجديدة وهي مثقلة بحمولة زائدة من التحديات الاقتصادية والضغوط المعيشية ومطالب الإصلاح، تماماً وتشبيهاً بسيارة صغيرة تحمل ما يفوق طاقتها، بينما تكتفي الدورية المناوبة بتسجيل المخالفة دون أن توفّر وسيلة نقل أكبر، فالحكومة تدافع عن موازنتها باعتبارها ضرورية، بينما يراها المطالبون بالإصلاح ناقصة في شبكة الأمان الاجتماعي ومشلولة في خلق فرص النمو، وهي تعود بنا إلى الجدلية الأردنية القديمة بين "العنب والناطور" ؛ بين من يريد الثمر ومن يحرس الأزمة.
وبلغة الأرقام البعيدة عن العواطف بلغت النفقات الجارية في مشروع الموازنة نحو 11.456 مليار دينار أي (88% من إجمالي الإنفاق)، مقابل1.6 مليار دينار فقط للنفقات الرأسمالية (12%). هذه المعادلة تجعل الموازنة أداة لإدارة النفقات لا لبناء الاقتصاد، فخمسة مليارات تُنفق على الرواتب والأجور، و2.26 مليار لتسديد فوائد الدين، مما يترك حيزاً ضيقاً للاستثمار في التنمية الحقيقية وتضضيع الفرص، بينما توصي المعايير الدولية بألا تقل حصة الإنفاق الرأسمالي عن 25% في الدول الساعية للنمو.
الإنفاق الرأسمالي ليس ترفاً بل حاجة ؛ فكل دينار يُنفق في المشاريع المنتجة يخلق عائداً بين 1.5 إلى 3 دنانير، والاستثمار في البنية التحتية والطاقة والزراعة لا يحرّك الاقتصاد فحسب، بل يقلّل من التبعية للدين والضرائب، وتجارب دول نامية مثل رواندا وفيتنام أثبتت أن رفع حصة الإنفاق الرأسمالي إلى 30–40% قادها إلى نموٍ متسارع وانخفاضٍ في البطالة، وهنا لا بد من التعلم فالدرس واضح: لا تنمية دون استثمار، ولا استثمار دون موازنةٍ تُنفق لتُنتج.
ويبرز القطاع الزراعي مثالاً حياً على الإنفاق الذكي، فالدونم المزروع بالزيتون المروي يُدر نحو 560 ديناراً سنوياً، ويمكن أن يحقق أكثر من 2000 دينار بمحاصيل ذات قيمة مرتفعة كالكَرَز، مع تطوير الصناعات التحويلية، فالهندسة الحقيقية للاستثمار الزراعي هي في بناء اقتصادٍ إنتاجيٍّ يقوم على القيمة المضافة لا على الدعم المؤقت.
أما البطالة التي تتجاوز 21% بين الشباب، فلا يمكن معالجتها إلا بإنفاق رأسمالي يخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، لا بزياداتٍ وهمية او مؤقتة في الرواتب تُنعش الاستهلاك سرعان ما يلتهمها التضخم.
إن المرحلة المقبلة تتطلب تحولاً تدريجياً يرفع حصة النفقات الرأسمالية إلى 25% خلال ثلاث سنوات، مع تعزيز الشفافية والمساءلة، ليصبح كل دينار يُنفق استثماراً في المستقبل، فالاقتصاد الأردني لا يمكن أن ينهض بينما يُنفق 88% من موارده على الرواتب والدين والدعم ويترك 12% فقط للبناء والتنمية.
التحول المطلوب ليس حسابياً فحسب، بل فلسفياً من معالجة العجز إلى بناء القدرة، ومن الإنفاق الشعبوي إلى الاستثمار الإنتاجي، لأن الموازنة ليست دفتر أرقام، بل خطة حياة، وإن لم نُدبّ الصوت اليوم، فسيُصوَّت علينا غداً، لأن عنب الإنفاق إن لم يُقطف بحكمة، فسيحرق نواطير التأزيم والأزمات الكرم كله.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-11-2025 09:51 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||