09-11-2025 10:24 AM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
الحسد شعور قديم قدم الإنسان، يتسلّل إلى النفس فيغشي بصيرتها، ويحوّل المحبة إلى غيرة، والقرب إلى خصومة. وقد تناول القرآن الكريم هذا الداء النفسي العميق في مواضع شتى، غير أنّ سورة يوسف جاءت بأعمق عرضٍ قرآنيّ لموضوع الحسد، حين جعلته محورًا دراميًا يدور حوله صراع النفس والقدر والإيمان.الرؤيا وبداية الابتلاء
حيث تبدأ القصة برؤيا يوسف عليه السلام، التي قصّها على أبيه:﴿إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾
فقال له يعقوب عليه السلام بحكمة المربي العارف بالنفوس:﴿ يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدوّ مبين ﴾.هنا تتجلى أول إشارة قرآنية دقيقة إلى طبيعة الحسد؛ فهو ليس وهمًا عابرًا، بل ميلٌ فطريٌّ نحو الغيرة قد يثيره التفضيل أو النعمة. ويكشف يعقوب عليه السلام وعيه بأن الشيطان يستغل هذا الميل ليحوّله إلى كيدٍ وظلم، فينحرف الشعور البشري الطبيعي إلى فعلٍ مؤذٍ من الغيرة إلى الكيد يقول الإخوة: ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾.
إنها لحظة الحسد في أنقى صورها النفسية: إحساس بالظلم والغبن يعتري من يرى غيره مفضّلًا عليه. لكنّ الحسد حين لا يُضبط بالتقوى والعقل يتحوّل إلى نقمة وعدوان. ومن هنا وُلدت فكرة الجريمة ﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا ﴾ تُبرز السورة بوضوحٍ أن الحسد لا يفسد علاقة الإنسان بغيره فقط، بل يفسد إنسانيته ذاتها، إذ يعميه عن القيم والمشاعر الطبيعية كالأخوة والرحمة والقرابة والنسب فالتقوى والصبر هم العلاج القرآني فلم يواجه يوسف عليه السلام حسد إخوته بالحقد، بل بالصبر والتسليم لأمر الله. تحوّل الابتلاء إلى طريقٍ للتمكين، فأصبح الحسد الذي أراد به الإخوة إذلاله بابًا للرفعة والكرامة. فقد لخّص القرآن العلاج في قول يوسف وعلى لسانه ﴿إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾.بهذه العبارة يؤسس القرآن المنهج الوقائي والعلاجي للحسد: تقوى تحفظ القلب من الغل، وصبرٌ يطهّر النفس من الانفعال، وثقةٌ بأن الله هو موزّع النعم بالعدل. فالمغفرة كذروة النصر حين التقى يوسف بإخوته بعد أعوامٍ طويلة من الفراق والمكابدة، لم يعاتبهم ولم يذكّرهم بخطيئتهم، بل قال: ﴿ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ﴾. بهذه الكلمة أنهى يوسف دائرة الحسد والكيد، واستبدلها بدائرة المغفرة والإحسان. فالمغفرة والصفح في نظر القرآن ليست ضعفًا، بل هي انتصارًا حقيقا وروحيًا على الغضب والغيرة والحقد.
إن سورة يوسف ترسم للنفس الإنسانية خريطة النجاة من الحسد: تبدأ بالوعي بخطره، والاعتراف بوجوده، ثم تضبطه بالتقوى، وتطهّره بالصبر، وتغلبه بالعفو.
فهي لا تعالج الحسد كخطيئة أخلاقية فحسب، بل تكشفه كابتلاءٍ إلهيٍّ يُظهر صدق الإيمان وقوة القلب. وهكذا تتجاوز سورة يوسف حدود الحكاية إلى أن تكون مدرسة في التربية النفسية والإيمانية، تُعلّم الإنسان كيف ينتصر على الحسد بالرضا،وعلى الأذى بالمغفرة، وعلى الظلم بالصبر والإحسان.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
09-11-2025 10:24 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||