06-11-2025 12:36 PM
بقلم : د. محمد إبراهيم نجيب
في لحظةٍ تبدو فيها التكنولوجيا وكأنها تسبق الإنسان بخطوة، يقف العالم على عتبة مرحلةٍ جديدة من التحول، مرحلةٍ تُعيد تعريف العمل، والثروة، وحتى القيمة الإنسانية ذاتها. لم يعد الذكاء الصناعي مجرد أداة ابتكرها الإنسان لتسهيل حياته؛ بل أصبح كيانًا موازياً لعقله، يتعلم أسرع منه، ويقرر أحيانًا بدلاً عنه. ومع كل خوارزمية جديدة تُكتب، ومع كل وظيفة تختفي بهدوء أمام آلة أكثر كفاءة، تتسع فجوة غير مرئية، فجوة لا تُقاس بالدخل أو التعليم، بل بالقدرة على التكيّف مع زمنٍ لا ينتظر أحداً. الذكاء الصناعي هو الوعد الكبير والتهديد الأكبر في آنٍ واحد. فمن جهة، يبشّر بعصر إنتاجية وابتكار غير مسبوقين؛ ومن جهة أخرى، يلوّح بعصرٍ جديد من اللامساواة الرقمية، حيث تتحول المعرفة إلى رأس مالٍ جديد، ويصبح من لا يمتلكها أشبه بمن يقف خارج التاريخ. في عالمٍ عربيٍ يعاني أصلًا من فجواتٍ اقتصادية وهيكلية عميقة، يبدو هذا التحول التكنولوجي كزلزالٍ صامتٍ يعيد توزيع القوة والفرص بين الدول، وبين الأفراد، وحتى بين الأجيال.
تُشير تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والتي تضم في عضويتها معظم الاقتصادات المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا والمحيط الهادئ إلى أن نحو 28% من الوظائف في هذه الدول تقع ضمن الفئة عالية المخاطر من الأتمتة، وأن العمال الأقل تعليمًا أو المهارات التقنية معرضون للتأثر الأكبر. هذا يعني أن التحول نحو الذكاء الصناعي، رغم فوائده الإنتاجية، قد يُعيد تشكيل سوق العمل العالمي بطريقة تُعمّق الفجوة بين من يملك المهارة الرقمية ومن لا يمتلكها.
أما في الشرق الأوسط، فالمشهد أكثر تعقيدًا. وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2024، فإن المنطقة تسجل واحدًا من أعلى معدلات بطالة الشباب عالميًا بنسبة تتجاوز 25% في بعض الدول، بينما يقلّ الإنفاق على البحث والتطوير عن 1% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بمتوسط 2.5% في دول OECD. هذا يعني أن الفجوة التقنية في المنطقة ليست فقط في سرعة التبني، بل في عمق المشاركة في صناعة التكنولوجيا نفسها. ان خلف وعود الإنتاجية الهائلة التي يعد بها الذكاء الصناعي، تتشكل ظاهرة أكثر عمقًا وخطورة تكمن في تشكل وجه جديد من وجوه الاستعمار، لا يحتل الأرض، بل يحتكر البيانات. فمعظم التقنيات والأنظمة الذكية التي يعتمد عليها العالم العربي اليوم تأتي من الغرب أو شرق آسيا، ما يعني أن خوارزميات هذه المنصات تتغذى على بياناتنا وتعيد صياغة سلوكنا الاستهلاكي والمعرفي، من دون أن نملك السيطرة الكاملة على ما تنتجه أو توجهه. لقد أصبح من يملك الخوارزمية يملك النفوذ، ومن يمتلك البيانات يملك المستقبل. وهكذا، فإن الذكاء الصناعي لا يُهدد فقط بتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بل يُعيد رسم خريطة النفوذ الدولي في صورة «استعمار خوارزمي» جديد، تتجلى فيه السيطرة من خلال المعرفة والتقنية لا من خلال الجيوش والحدود. تدرك بعض الدول العربية هذا الخطر مبكرًا؛ فالمملكة العربية السعودية مثلًا أطلقت الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي عام 2020 بهدف تطوير القدرات المحلية وتقليل التبعية التقنية، بينما يعمل الأردن على تعزيز الكفاءات الرقمية من خلال مبادرات مثل أكاديمية الذكاء الاصطناعي وبرامج التدريب الحكومي على المهارات المستقبلية. ورغم أن هذه الجهود تشكّل بداية واعدة، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في الانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التبعية إلى السيادة الرقمية.
وفي ظل هذا التحول العالمي، لم يعد الذكاء الصناعي مجرد أداة اقتصادية، بل مرآة أخلاقية تكشف جوهر المجتمعات، فمن يسخر ذلك الذكاء لبناء الإنسان، ومن يتركه ليحكمه؟ لم تعد المسألة من يملك المال أو الموارد، بل من يملك البيانات التي تُصنع منها الحقيقة ذاتها، فالمستقبل لن يُقاس بعدد المصانع أو حجم الاحتياطيات، بل بقدرتنا على فهم الخوارزميات التي تُعيد تشكيل وعينا المجتمعي واقتصادنا معا. وإذا لم تُدرك الحكومات العربية أن السيادة القادمة لن تُحسم بالأسلحة والجيوش، بل بخطٍّ من الشيفرة البرمجية، فقد نجد أنفسنا أمام استعمارٍ جديدٍ بلا جيوش، وانقسامٍ اقتصادي لا تخلقه الطبقات، بل تُعيد هندسته الآلات حينها، لن يكون السؤال: من يملك المستقبل؟ بل: من يُسمح له بأن يكون جزءًا منه؟
د. محمد إبراهيم نجيب
خبير مالي واقتصادي
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
06-11-2025 12:36 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||