28-10-2025 09:47 AM
بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
رهبة المكان… ولحظة مواجهة مع الحقيقة
منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها قدماي بوابة مقبرة المسلمين في منطقة سحاب بالأردن، تسلّل إلى قلبي شعور مهيب ممزوج بخشوعٍ غريب. المكان هنا له لغة خاصة، لا يُنطق فيها إلا بالصمت. كل حجر، كل زاوية، كل شبر من الأرض يروي حكاية من غادروا الدنيا إلى دار الخلود. تلك اللحظات تُجبرك على التوقف، على مراجعة نفسك، لتتذكر أن هذه الأرض نهاية كل البشر، وأننا مهما تعالت خطواتنا في الحياة، فهنا تلتقي المسافات عند قدرٍ واحد.
استحضرت حينها قول الله تعالى:
"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران: 185).
وهمست لنفسي: هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها، النهاية التي تساوي بين الملوك والفقراء. واستحضرت بعدها بعض الآيات من الذكر الحكيم قوله تعالى:
"إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ" (الزمر: 30)،
"قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ" (السجدة: 11)
"وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ" (الرحمن: 27).
كأن هذه الآيات كانت تخاطب وجداني مباشرة، تذكّرني بأننا جميعًا على موعدٍ مع الختام، وأن ما يبقى بعدنا هو الأثر والذكرى.
بين القبور القديمة والجديدة… حكاية تنظيمٍ ناقص
مع تقدّمي بين القبور القديمة التي تمتد عبر عقود من الزمن، شعرت بالدهشة والأسى على حد سواء. بعض الشواهد تحمل تواريخ تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، مرورًا بتسعينيات القرن الماضي وحتى السنوات الأخيرة 2024 و2025.
القسم الحديث بدا أكثر تنظيمًا، فيه مسارات شبه واضحة وفراغات تسهّل على الزائر الحركة، بفضل جهود بلدية سحاب التي قامت مؤخرًا بأعمال تنظيف وصيانة مشكورة.
لكن الأقسام القديمة كانت تحكي حكاية مختلفة تمامًا أعشاب طويلة وجافة تغطي شواهد القبور، تمتد في كل اتجاه حتى تكاد تُخفيها عن الأنظار. كان المنظر مؤلمًا، وكأنّ الذاكرة الجماعية تُغطيها طبقة من النسيان.
محاولتي للبحث عن قبور بعض أقاربي تحوّلت إلى مهمة شاقة أشبه بالبحث وسط غابةٍ صامتة. فالأعشاب الكثيفة المتشابكة تُعيق السير، والممرات اختفت تحت تراكم السنين، حتى صار الوصول إلى القبر يحتاج إلى صبرٍ ووقتٍ ومشقة. رأيت كيف يقف الزائر تائهًا، يحاول أن يتذكّر معالم المكان، بينما الرياح تعبث بالأعشاب الطويلة من حوله، وكأنها تُخفي ما كان ينبغي أن يكون واضحًا ومهذبًا.
كلاب ضالة… ومشهد غير مألوف في المقابر
حين تطاردك الكلاب بين القبور: زيارة إلى مقبرة سحاب تكشف وجع المكان وغياب المسؤولية
وأثناء تجولي بالسيارة داخل المقبرة، صادفت مشهدًا غير مألوف ولا يليق بحرمة المكان. كلاب ضالة بأعداد ملحوظة وكثيفة تتجول بين القبور بحرية تامة، بعضها ينبش الأرض، وبعضها الآخر يركض بين الممرات بطريقة مفزعة. وما أثار الرعب حقًا، أن مجموعة منها بدأت تلاحق سيارتي بسرعة جنونية، ما اضطرني للابتعاد فورًا تجنبًا لأي خطر محتمل.
ذلك المشهد كان مربكًا ومخيفًا في آنٍ واحد؛ جريها السريع، وعدوانيتها، وصدى أصواتها بين القبور، جعلت اللحظة تبتعد تمامًا عن السكينة التي يُفترض أن ترافق زيارة المقابر. عندها أدركت أن الخطر هنا لا يهدد راحة الموتى فحسب، بل يهدد سلامة الأحياء الذين يقصدون زيارة ذويهم، خصوصًا كبار السن والنساء الذين قد يتراجعون عن الدخول خوفًا من تلك الحيوانات السائبة التي تجوب المكان بلا رادع.
لم يكن مجرد حادثة عرضية، بل علامة على غياب الرقابة وضعف الصيانة، فالمقبرة ليست مكانًا يمكن أن يُترك عرضة للحيوانات أو الإهمال، بل هي مكان مقدّس يُفترض أن يُصان كما تُصان المساجد والمقامات.
الملبس والسلوك… ضرورة احترام المكان
في أثناء جولتي، لاحظت كذلك ممارسات فردية لا تليق بحرمة المقابر. رأيت نساءً يقفن عند قبور أقاربهن دون التزام باللباس الشرعي أو الحشمة، بشعر مكشوف وملابس ضيقة كالبنطال الجينز، وكأن المكان فقد هيبته في نظر البعض.
هذا المشهد أثار في نفسي تساؤلًا عميقًا: كيف يمكن أن نطلب الرحمة للميت ونحن نغفل عن احترام المكان الذي يرقد فيه؟
هنا تبرز أهمية وجود يافطة واضحة عند مدخل المقبرة تؤكد أن زيارة القبور يجب أن تكون بلباس محتشم، وأن أي مخالف لهذه التعليمات لن يُسمح له بالدخول.
فزيارة القبور عبادة وذكر، لا فسحة ولا نزهة، وهي مكان يُستحضر فيه الخشوع والاعتبار لا المظاهر العابرة.
حرمة المقابر في ميزان الشرع
المقابر في الإسلام ليست أماكن للنسيان، بل للتذكّر. وقد أولى الدين حرمة الميت عناية عظيمة؛ فالميت له حرمة كحرمة الحي، حديث عائشة رضي الله عنها: يقول رسول الله ﷺ:
"كسر عظم الميت ككسره حيًّا" (رواه أبو داود).
أي أن الاعتداء على قبر أو الإهمال فيه يشبه في ميزان الشرع الاعتداء على الإنسان نفسه.
ومن هنا، فإن كل مظاهر الفوضى، الإهمال، أو التعدي في المقابر هي مخالفة مباشرة لجوهر التعاليم الإسلامية التي أمرتنا بإكرام الميت وصيانة قبره.
احترام المكان ليس فقط واجبًا أخلاقيًا، بل التزام شرعي، ووجه من وجوه الإيمان بالآخرة.
رحلة الزائر… بين الصمت والمعاناة
الزائر الذي يأتي المقبرة لا يبحث عن رفاهية، بل عن لحظة صفاء مع من أحب. ولكنه عندما يواجه ممرات مليئة بالأعشاب، وطرقات غير ممهدة، وغيابًا للإرشاد، فإن زيارته تتحول من طمأنينة إلى مشقة.
تخيل زائرًا جاء ليزور قبر والدته أو طفله الصغير، فيتوه بين الصفوف، أو يتعرض لمطاردة كلاب ضالة، أو يُجبر على السير فوق القبور لأنه لا يعرف طريق الممر.
هل هذه بيئة تليق بكرامة الموتى؟ هل يمكن أن تبقى المقبرة مكانًا للسكينة في ظل هذا الإهمال؟
السكينة الغائبة… ووجع الاحترام المفقود
أصعب ما في المقابر ليس مشهد الموت، بل الإحساس بأن الاحترام للمكان بدأ يتراجع. المقابر ليست للموتى فقط، بل للأحياء أيضًا، فهي تذكّرنا بدورة الحياة، وتربينا على الصبر والتواضع.
حين يفقد المكان نظامه، يفقد الناس جزءًا من شعورهم بالانتماء والاحترام.
لقد بكيت في داخلي وأنا أرى قبور أجدادي وقد غطتها الأعشاب الكثيفة، وكأنها تُناشدنا بصمتها أن نعيد لها حقها في الرعاية.
المطلوب من البلديات والجهات الرسمية:
لكل مشكلة حل، وما نحتاجه اليوم هو خطة وطنية شاملة لإعادة تنظيم المقابر وصيانتها بشكل حضاري وإنساني. وفيما يلي أبرز الخطوات المقترحة:
- اعتماد مشروع وطني لتوحيد ترقيم المقابر والقطاعات.
- إطلاق نظام إلكتروني (أو تطبيق ذكي) يمكّن الزائر من إدخال اسم المتوفى لتحديد موقع القبر بسهولة.
- هذا النظام مُطبَّق بنجاح في دولة الإمارات والسعودية وأوروبا، حيث شاهدت بعيني كيف يُسهل الرقم على الزائر الوصول إلى قبر ذويه في دقائق دون عناء.
- وضع لوحات واضحة في كل مدخل توضح التعليمات الشرعية واللباس المناسب.
- تزويد المقابر بخرائط ميدانية مبسطة تُظهر مواقع القطاعات والمرافق.
- تمهيد المسارات وتعبيدها لتناسب كبار السن وذوي الإعاقة.
- قص الأعشاب بشكل دوري وتنظيف المكان من القمامة.
- توفير صنابير مياه ومرافق صحية نظيفة.
- تركيب إضاءة خافتة وآمنة للمساء.
- بناء سور آمن يمنع دخول الحيوانات الضالة تمامًا.
- زراعة أشجار ونباتات بسيطة لا تحتاج عناية كثيرة، لتضفي جوًا من الطمأنينة والسكينة.
- ترميم الشواهد القديمة دون مبالغة أو زخرفة.
- تنظيم حملات تطوعية دورية بالتعاون مع البلديات والمجتمع المحلي.
إطلاق مبادرة توعوية بعنوان:
"الذاكرة المنظمة: كرامة الميت وراحة الزائر"
لربط الجانب الإداري بالجانب التوعوي.
الخاتمة: المقبرة مرآة الحضارة
في نهاية زيارتي، وقفت للحظة عند مخرج المقبرة، نظرت إلى الداخل طويلاً قبل أن أغادر.
ذلك الصمت العميق الذي يملأ المكان يحمل أكثر من معنى؛ إنه يذكّرنا بأن هذه الأرض التي ندفن فيها أحبابنا ليست مجرد تراب، بل أمانة يجب أن نصونها.
كل قبر هناك يروي حكاية إنسان كان يومًا بيننا، ضحك، بكى، أحب، ثم رحل. وما يوجع القلب أن بعض هذه الحكايات ضاعت تحت الأعشاب أو وسط فوضى الإهمال.
وكأن الأرواح تئن من خلف الشواهد، تنتظر من يذكرها ويحفظها، بينما ظلال الاعشاب الطويلة تغطي صمتها بلا رحمة.
وهناك، شعرت بأن الحزن ينسكب على التراب، وأن دمعة كل زائر لن تعيد شيئًا من ما ضاع من كرامة هؤلاء الذين رحلوا.
حرمة المقبرة من حرمة الإنسان، وصيانتها من صيانة القيم.
فلنعد إلى المقابر هيبتها، ولنحترم صمتها، ولنتعامل معها كمدرسة للحياة لا كأرضٍ منسية.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
فاحفظوا كرامة الميت وكرامة المكان.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
28-10-2025 09:47 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||