09-10-2025 10:51 AM
بقلم : د. أجمل طويقات
منذُ البدء، كانتْ القدس في حياتِنا عشقًا لا يُشبهُ سواهُ، عشقًا تَربّى فينا كما تتربّى الأغصانُ على ضوءِ الشمسِ، وكما ينمو الحنينُ في صدورِ العاشقين.
ما كانت كلمةُ العشق ترفًا أو هوايةً عابرةً، بل كانتْ وجه الحياةِ الأبهى، ومتنفّس الروح حين تضيقُ المَسالكُ؛ لقد نما هذا العشقُ فينا يومًا بعد يومٍ، حتى صار فينا موروثًا يُشبه الملامح الأولى للبيوت القديمةِ التي حفظتْ أسرار الجدّات وهمس الحكاياتِ في الليالي الطويلةِ.
لقد رضعنا هذا الحب صغارًا مع حليبِ الأمّهات، وسُقيناهُ في دفءِ الحكايات، حينَ كان الأجداد يروون القصص على ضوءِ الفوانيسِ، فسكنت الكلماتُ آذانَنا كأنّها ترانيم من زمنٍ بعيد.
ومنذُ ذلكَ الحين، صارت الكتابة فينا قدرًا جميلًا، نهرًا من البوحِ لا ينقطعُ، نكتب لنحيا أوفياء للكلمةِ التي أنبتتْ فينا المعنى والهوية والحبِّ.
إن جذور هذا الوطن ليست مجرد أرضٍ، بل قلبٌ يستوطن أضلاعنا، ونبضٌ يسري مع دمائنا، وصوتٌ يهمس في أحلامنا؛ فشوقنا إلى القدس لا يُقاس بالمسافات، ولا تحدّه الحواجزُ، فكلُّ زهرةٍ تتفتحُ في قلوبنا، وكلُّ نسيمٍ يمرّ بنا عبر جبالِ البلقاء يحملُ عبير شجر البرتقال في يافا، ودفءَ شمسِ غور الأردن، ويذكّرنا بأننا جزءٌ من تاريخِ أمةٍ عظيمةٍ غفت عيناها ولم تمت، أحجمت خيولُها ولم تهلك.
وكانت الكتابة وسيلة للتعبير عن هذا العشق الجارف، والكتابةُ ليست حرفةً، بل محاولةٌ لاتخاذِ موقفٍ ثابتٍ يشير إلى إيمانِنا العميق بحقِّ الأمةِ، منذ أعلن الشريفُ الحسين بن علي -طيب الله ثراه ـ ثورتهِ المجيدة تحررًا ووحدةً للأمة العربية وحتى هذا اليوم في مملكة ورثت هذا المجد.
نعم، نكتب لنقول: إننا ما زلنا نتنفس حبَّ القدس مع طول الغيابِ، وأن القلب ما زال متمسكًا بأهدابِ معشوقتِهِ. وكلُّ نصٍّ يُولدُ من وجعٍ قديمٍ أو فرحٍ مؤجلٍ، يعبر عن حالةٍ وجدانيةٍ ووجوديةٍ للأردنيين، كما تخرج ملامحُ الغيمِ في وجهِ السماءِ قبل المطرِ. ولا بد للغيمِ أن ينهمر.
وتعلّمنا أن الحنين ليس ضعفًا، بل قوةً، وأن الصبر ليس انتظارًا عابرًا، بل ولادة صباح جديدٍ نرسمُ فيه ملامح فلسطينَ في قلوبنا.
إنها حالةٌ عامةٌ، ليست فرديةً، حالةُ الأردني الذي يتألم لغياب القدسِ، ويبتسم عند ذكرها، ويكتب عنها، ويحلم بها، ويزرع بذورها في كل مكانٍ يصل إليهِ، فتبقى فلسطين، رغم البعد، نبضَ القلبِ، وشوقَ الروحِ، وجذر الهويةِ، الذي لا ينساه الأردن، والذي لا يُمحى من ذاكرةِ كل أبٍ وأمٍ، وكل طفلٍ يولد تحت سماءِها.
إن الكتابةَ تشيخُ بالحروفِ، ترى في الوجعِ جمالًا خفيًا، وفي الوحدةِ وطنًا صلبًا متماسكًا، وإن بدا عدوٌّ يمزقهُ.
ولا يخفى علينا أن عددًا من ابناء الأمة، إلى عهدٍ قريبٍ، قد صدّقوا بأن الاحتلالَ الإسرائيلي قادرٌ على الصدقِ في وعودهِ بالسلامِ والعيشِ المشتركِ. لكن الواقع، بكل وضوحهِ وقسوتهِ، فضح تلك الأوهامَ، وأثبت أن النوايا الحقيقية لهذا الاحتلال ما تزال متمثلةً في حلمٍ مزعومٍ بدولةٍ إسرائيلَ الكبرى. هذا الانكشاف يُلزمنا جميعًا، حكوماتٍ وشعوبًا، بأن نعيد النظر في السياسات المتبعة، وأن نعزز تماسك الجبهة الداخلية، بسرعةٍ وبوعيٍ كاملٍ، قبل فوات الآوان، لنكونَ مستعدين لكلِّ ما قد يحمله المستقبلُ من تحدياتٍ، ولنؤكد أن الحقَّ لا يُباع، والهويةَ لا تُمسّ.
وفي هذا السياقِ، يجب أن يبرز الأردنُ العظيمُ، قويًا ومنيعًا، بتلاحمِ أبنائِهِ كجسدٍ واحدٍ، يحملون هاجس إعادةِ الأرضِ المسلوبةِ فلسطين، ويقطعون الطريقَ على نتنياهو المتغطرس لتحقيق حلمهِ الزائف بإسرائيل الكبرى. فهو لا يدرك أن كل جرائمه، وكل محاولاته، ما هي إلا خطواتٍ تُسرّع حتمًا نهايةَ دولةِ الاحتلالِ الإسرائيلي، وأن الحقَّ لا يموتُ، والكرامةَ لا تُهان، وأن أصحابها الحقيقين عائدون إليها لا محالة.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
09-10-2025 10:51 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |