حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,10 أكتوبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 11389

د.عبدالله سرور الزعبي يكتب: غزة من الدمار إلى القرار

د.عبدالله سرور الزعبي يكتب: غزة من الدمار إلى القرار

د.عبدالله سرور الزعبي يكتب: غزة من الدمار إلى القرار

08-10-2025 08:28 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.عبدالله سرور الزعبي
منذ انسحاب إسرائيل من قطاع غزة العام 2005، تحوّل القطاع الصغير إلى بؤرة صاخبة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. توالت الحروب، 2008، 2012، 2014، 2021، وصولا إلى حرب 2023 وحتى تاريخه، والتي تعد الأعنف والأطول والأكثر دمارا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي كل مرة، كان الدمار يعمّ غزة، لكن نيران الحرب كانت تتسع لتشمل الإقليم سياسيا وأمنيا واقتصاديا، لتجعل من غزة مرآة لصراع الإرادات بين القوى الكبرى والإقليمية، ومختبرا لتوازنات جديدة تتشكل بصمت.


منذ الانقسام الفلسطيني العام 2007 بين سلطة الضفة الغربية وسلطة غزة، ظل الجرح الداخلي مفتوحا، فكل محاولات المصالحة اصطدمت بواقعين سياسيين وأمنيين متناقضين. ومع اشتداد الحرب الأخيرة، تجددت الدعوات للوحدة الوطنية، لكن الميدان كشف عمق الخلافات حول إدارة ما بعد الحرب، ودور المقاومة، ومستقبل الدولة الفلسطينية.
بعد هذه الحرب، لم تعد القضية الفلسطينية شأنا محليا أو إقليميا، بل تحولت إلى قضية ضمير عالمي. صور الدمار والضحايا وضعت إسرائيل أمام محكمة الرأي العام، وأحرجت دولا غربية طالما تغنّت بحقوق الإنسان. ومع أن إسرائيل تراهن على الزمن وتفوّقها العسكري والدعم الغربي، إلا أن الحرب كسرت صورتها التقليدية، وأعادت النقاش حول حلّ الدولتين إلى الواجهة، بعد أن كان مدفونا تحت ركام الصفقات والمساومات، بينما اعترفت معظم دول العالم بالدولة الفلسطينية.
الحرب أعادت أيضا اختبار مدى صدقية اتفاقات أبراهام؛ حيث تبين أن بناء علاقات طبيعية من دون حل عادل للقضية الفلسطينية هو بناءٌ على رمالٍ متحركة، وأن الرأي العام العربي ما يزال يرى في فلسطين قضية مركزية تتجاوز كل التحالفات. في المقابل، اكتشفت إسرائيل أن الحرب ليست مع فصيل، بل مع وعي لم يمت، ومع منظومة قيمية ترى في الظلم خطرا على الجميع.
اليوم تتزاحم القوى الدولية والإقليمية على ساحل غزة، من واشنطن إلى موسكو وبكين، ومن طهران إلى أنقرة والقاهرة والدوحة، تتقاطع المصالح والتصورات لما بعد الحرب. إيران تسعى لترسيخ نفوذها في محور المقاومة المتآكل، وتركيا توازن بين خطابها الداعم لفلسطين ومصالحها الاقتصادية، ومصر تحاول استعادة دورها التاريخي كضامن لأي تسوية مستقبلية. أما الولايات المتحدة، فتواجه اختبارا أخلاقيا واستراتيجيا صعبا، كيف تحافظ على دعمها لإسرائيل من دون أن تخسر الشرق الأوسط، بينما تستثمر الصين وروسيا هذا التناقض لتعزيز حضورهما عبر بوابة العدالة ورفض ازدواجية المعايير.
وراء كل هذه الحسابات، يبقى الدمار الهائل في غزة مشهدا يتجاوز الخراب المادي (كما في حروب غزة السابقة) إلى انهيار منظومات كاملة، الزراعة (أكثر من 70 % من الأراضي الزراعية لم تعد صالحة)، والمياه (شبكات المياه مدمرة أو ملوثة)، والكهرباء، والقطاع الصحي والتعليمي، والاتصالات وغيرها من عناصر البنية التحتية المطلوبة لمقومات الحياة. في الوقت نفسه، يعاني القطاع من أزمة إنسانية غير مسبوقة (عائلات انتهت، وأعداد من جرحى لم يعرف عددهم بدقة بعد، ودمار نفسي من الصعب التنبؤ فيه). ومع ذلك، فالفلسطينيون يحملون في قلوبهم بذرة الحياة الأبدية، ويتمسكون بإرادة البقاء التي تحولت إلى رمز للصمود.
إعادة الإعمار ستكون التحدي الأكبر، سياسيا واقتصاديا ونفسيا. هل ستكون إدارة وطنية فلسطينية خالصة، أم لجنة دولية (لمرحلة انتقالية، مع مشاركة رمزية للفلسطينيين أو العرب فيها)، أم وصاية عربية مشتركة؟ المخاوف تتزايد من أن تتحول عملية إعادة الإعمار إلى أداة سياسية لفرض واقع جديد، قد يمتد لعقود من الزمن، بينما الأمل يبقى بأن يقود الفلسطينيون غزة بأنفسهم، وأن تكون التنمية الاقتصادية جزءا من مشروع وطني يقود نحو الدولة الفلسطينية المستقلة.
أما الدول العربية، فتقف أمام اختبار تاريخي بين المساندة والقلق. فالمطلوب ترجمة الدعم السياسي إلى مشاريع تنموية حقيقية، ومنع تحويل غزة إلى ساحة نفوذ أجنبي جديد. حيث يدور الحديث عن مبادرات عربية لإعادة الإعمار وربطها بإصلاح السلطة الفلسطينية، لكن السؤال الأهم يبقى، هل يُسمح للفلسطينيين والعرب بأن يكون الدور القيادي لهم في الملف الفلسطيني، أم أن القوى الكبرى، وخاصة أميركا، ستتولى رسم ملامح المرحلة المقبلة بالكامل؟
في خضم النقاش حول مستقبل غزة، بعد اليوم التالي، عادت إلى الواجهة نسخة معدّلة من مبادرة الرئيس ترامب، أُعيد تسويقها بصيغة جديدة تدمج بين الترتيبات الأمنية والإدارة المدنية المؤقتة، بدعوى وقف إطلاق النار وبدء الإعمار بإشراف دول معينة. المفارقة أن بعض بنودها تتقاطع مع الطروحات المطروحة اليوم في مفاوضات القاهرة، التي تسعى إلى موازنة مطلب إسرائيل بضمان أمنها مع مطلب الفصائل الفلسطينية برفع الحصار وضمان السيادة.
الموافقة الفلسطينية على مقترحات الرئيس ترامب، والتي تحمل طابعا دوليا، تُظهر مرونة تكتيكية هدفها تفادي فرض إدارة خارجية لغزة، وإدراكا لثقل الكارثة الإنسانية. ومع ذلك، تبقى أي تسوية مرهونة بميزان القوى، والضغوط الأميركية والإسرائيلية، وموقف الدول العربية التي تحاول الموازنة بين الدعم ومنع انفجار أوسع.
المفاوضات الجارية في القاهرة تمثل لحظة مفصلية، إن نجحت، فقد تفتح باب هدنة طويلة الأمد، وتعيد ترتيب البيت الفلسطيني، وتطلق مسارا سياسيا جديدا ولو جزئيا. أما فشلها، فقد يقود إلى تصعيد جديد أو فرض وصاية دولية مؤقتة ستعمق الانقسام وتضعف فرص الحل الدائم، وهذا يتطلب موقفا عربيا وإسلاميا حازما، وتدخلا دوليا جادا، للضغط على إسرائيل لإيقافها، والتراجع عن مخططاتها المعلنة من قبل نتنياهو خلال اليومين الأخيرين. في جميع الأحوال، فإن الوحيد القادر على فرض الحلول على نتنياهو هو الرئيس الأميركي فقط.
في وسط هذا المشهد المعقد، يبقى الأردن ثابتا على موقفه المبدئي، والأقرب جغرافيا وإنسانيا إلى فلسطين، والأكثر تضررا من أي انفجار في الضفة أو انهيار في غزة. يواصل الأردن التمسك بثوابته في دعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض التهجير. وقد عبر الملك عبد الله الثاني، بوضوح، عن رفض أي حلول على حساب الأردن، مؤكدا أن المملكة لن تقبل بدفع الثمن.
لقد آن الأوان لأن يُدرك الجميع أن دور الأردن سيكون محوريا في إعادة تشكيل المشهد المقبل، فهو صلة الوصل بين العرب والغرب، وصوت العقل في زمن الانفعالات، والضامن لأي استقرار مستقبلي في الضفة وغزة، والمنطقة بكاملها.
اليوم، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق، فهناك من يرى في هذه الحرب فرصة لبناء شرق أوسط أكثر عدلا، وآخرون يخشون أن تكون بداية مرحلة جديدة أكثر تعقيدا. لكن الأمل يبقى، فهو العنصر الوحيد القادر على مقاومة اليأس، لأن التاريخ أثبت أن الشعوب التي تتألم لا تموت، بل تولد من جديد بوعي أشد وإصرار أكبر.
اليوم، يمكن القول إنه ربما لم تنتهِ الحرب فعليا، ولن تنتهي في المنطقة، لكنها كشفت حقيقة واحدة، أن الشرق الأوسط بعد غزة لن يكون كما كان قبلها. فقد تبدلت الموازين، وانكشفت هشاشة التحالفات، وبدأت مرحلة جديدة من الوعي السياسي العربي والعالمي. ستبقى غزة، رغم الجراح، شاهدا على أن العدالة لا تُقصف، وأن الشعوب لا تموت، وأن الشرق الأوسط، مهما تقلبت خرائطه، لن يستقر ما لم يتحقق العدل في فلسطين، وهي الحقيقة التي يدافع عنها الأردن بقيادته الهاشمية منذ عقود وفي كل المنابر والمحافل الدولية.

*مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية











طباعة
  • المشاهدات: 11389
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
08-10-2025 08:28 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تنهي خطة ترامب حرب "إسرائيل" على غزة وتدفع نحو إقامة دولة فلسطينية؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم