05-10-2025 08:16 AM
بقلم : د. دانا خليل الشلول
في خضم حرب غزة وتضارب المعايير الدولية، لم يكن الظهور الإعلامي للملكة رانيا العبدالله عادياً، بل كان مميزاً واستثنائياً يحمل استراتيجية دبلوماسية مبتكرة، تستند لقوةٍ اتصاليّةٍ وإعلاميّة تقوى بالمعرفة، والفهم المعمّق للأحداث، ووعيٍ للإنسانيّة وأبجدياتها واحتياجاتها؛ فمن خلال إطلالاتها على أقوى المنابر والقنوات الإعلاميّة الغربية مثل؛ ( CNN و CBSوMSNBC) وغيرها من المنابر الإعلامية المهمة وذات الوصول والتأثير العالي، أثبتت جلالة الملكة رانيا العبدالله أنَّ صوت الضمير والقيم يتفوق حتماً في تأثيره وجدواه على قوة آلة التسخير الإعلامي والمالي الهائلة التي يملكها الطرف الآخر؛ فقد مثّل هذا الظهور المتوازن قفزةً نوعية في الدفاع عن القضايا الإنسانية، متجاوزاً الطرق التقليدية التي يُلجأ إليها لنقل الأفكار والمشاعر، والتعبير عن وجهات النظر نحو القضايا والأحداث التي تؤثّر بهم أو عليهم؛ كالاعتراض، أو تناقل وجهات النظر الساخطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، أو الاحتجاجات والمظاهرات، لنجد أنَّ جلالتها تمتلك صوت حقٍ متوازن يتجاوز الصراع وأدواته التقليديّة.
الوجه الإنساني يكسر احتكار تكنولوجيا الدعاية الغربيّة:
وهنا يتضح لدينا جليّاً أنَّ مفتاح تأثير جلالة الملكة رانيا العبدالله الأقوى يكمن في تركيزها على الحقائق الإنسانية المجرّدة التي لا يمكن دحضها أو إنكارها؛ مما أدّى قطعاً إلى إضعاف قدرة السرديّة المضادة؛ التي تعتمد على التمويل الهائل لفرض سرديّة واحدة، وبذات الاتجاه؛ لتوجيه العقول لهدفٍ قد حُددت وجهته ومقاصده مسبقاً؛ لغسل عقول المتلقين.
فيما اعتمد خطاب جلالة الملكة رانيا العبدالله على مواجهة السرديّة المضادة بحقائق قوية عن الاحتلال، والحرمان المتعمد للمدنيين من الغذاء والدواء، وممارسة العنف والترهيب، وأقسى وأبشع أنواع التعذيب تجاههم، متمسكةً بمطالبها الصريحة والثابتة بمعاملة المعتقلين بكرامةٍ وإنسانيّة، حيث إنَّ هذا الوضوح الشجاع أجبر المشاهد الغربي على إعادة تقييم الموقف، بناءً على سرديّة منطقيّة وفقاً للحقائق الغير قابلة للشك، وفي المقابل، وعلى الرغم من الإنفاق الضخم، لم يستطع الطرف الآخر كسب احترام وتعاطف أخلاقي مستدام من الشعوب الغربية، التي بدأت ترى في خطاب الملكة الوجه المفقود للعدالة.
الدبلوماسية العائلية: تجاوز قيود الترس السياسي
لا يخفى أمامنا أنَّ أحد أهم عوامل نجاح هذه الاستراتيجية التي تسير عليها جلالتها، هو أنَّ الملكة رانيا عملت من "مساحة دبلوماسيّة رماديّة" ليست متاحة للدبلوماسيين أو القادة السياسيين التقليديين؛ حيث إنَّ هذا التحول منحها مرونة وحرية أكبر في التعبير، إذ استطاعت جلالتها تحييد الترس الرسمي الذي يقيّد الدبلوماسي العادي بضرورة التوازن بين المصالح، فبخلاف الوزير المُقيد بالتبعات السياسية المباشرة، لم تكن الملكة في موقع اتخاذ قرار تنفيذي يومي؛ مما سمح لها بنقد الازدواجية الأخلاقية بجرأة، وبعيداً عن تبعات التقييد الرسمي المباشر، ومتفاديةً الاصطدام المباشر بالأطر الدبلوماسيّة؛ فهي تتحدث بـ "لغة الضمير الملكي" الذي يُفترض به أن يكون فوق الشحنات السياسية.
إضافةً إلى ذلك، فقد استثمرت جلالة الملكة رانيا العبدالله قوة لغة الأم والإنسانية كأداة لتحقيق التأثير الوجداني المباشر والوصول القيمي للجمهور؛ فالخطاب السياسي الرسمي يغلب عليه الجمود والمصطلحات المكررة، لكن الملكة استخدمت قوة "الأبوة والأمومة"؛ فبمجرد حديثها عن أطفال غزة كأمهات العالم، وصلت بفاعلية إلى عقل المشاهد الغربي بخطاب عالمي مشترك وعاطفي يفهمه الجميع، وهو ما يفتقده الخطاب السياسي الرسمي التقليدي.
كسب احترام الجمهور الغربي؛ سحر القوة الناعمة؛
كما إن الاحترام الواسع الذي حظيت به الملكة رانيا لم يأتِ من موقعها الرسمي الملكي فحسب؛ بل من صياغتها لرسالة تتحدث بلغة القيم المشتركة: العدالة، والمساواة، ورفض العنف ضد المدنيين؛ فقد نجحت في تحويل النقاش من صراع سياسي معقد إلى قضية أخلاقية عالمية بسيطة، مُسلِّطة الضوء على الازدواجية التي تمارسها الحكومات الغربية، كما أنَّ هذا التوجه أكسبها ثقة الجيل الجديد الذي يتفاعل مع المحتوى العاطفي والقيمي الصادق؛ مما أدى إلى تحويل مقاطع لقاءاتها إلى محتوى رقمي واسع الانتشار على منصات التواصل، متجاوزةً بذلك احتكار الإعلام التقليدي، فيما أنَّ هذا التحرك لم يولّد التعاطف وحسب، بل زاد من الضغط الشعبي على الحكومات للمطالبة بوقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات، مُثبِتاً جدوى هذا النهج الدبلوماسي الجديد الذي تتبعه جلالتها.
القفزة المبتكرة: نموذج دبلوماسي للمستقبل
بينما يُمثّل نهج الملكة رانيا أنموذجاً استثنائيّاً لـ "القفزة المبتكرة" التي تتجاوز الطرق التقليدية، فقد أثبت هذا الحوار المتوازن قدرة فائقة على تحقيق نتائج وتأثير يفوق الأثر المحدود والمؤقت للمظاهرات والاحتجاجات، متفادياً الدخول في صراعات مسلحة لا تملك المنطقة وقودها وعدتها، حيث إنَّ هذا المنهج هو منهج استراتيجي يوظف القوة الناعمة بذكاءٍ للتوجه مباشرة إلى ضمير الجمهور العالمي، ووضع معيارٍ أخلاقيٍ للمطالبة بـإعادة بناء غزة وضمان حقوق مدنييها في المستقبل.
ختاماً، وفي حدود وتحديات الدبلوماسية الأخلاقية
ولإكمال المشهد التحليلي، يجب وضع هذا النموذج تحت المجهر النقدي بتحليل حدود تأثيره المباشر وكيفية تعامله مع مقاومة الدعاية المضادة؛
ففي حين تنجح الدبلوماسية الأخلاقية في كسب الرأي العام والتعاطف الشعبي، فإنها تواجه تحديّاً كبيراً في ترجمة هذا الدعم إلى قرارات سياسية ملموسة على مستوى الحكومات الغربية؛ حيث يكمن تأثير خطاب الملكة رانيا في تغيير المعايير الأخلاقية للنقاش؛ لكن الحكومات الغربية لا تتخذ قراراتها بناءً على التعاطف الشعبي وحده، بل على المصالح الجيوسياسية، وبالتالي، يبقى دور هذا النهج تمهيدياً للحل السياسي وليس بديلاً عنه، إذ يقتصر تأثيره التنفيذي على زيادة الضغط الشعبي كجسر عبور لعمل الدبلوماسية الرسمية، دون القدرة على فرض قرارات سياسية صعبة.
وفي المقابل، أثبتت هذه الدبلوماسية قوة في امتصاص الهجوم المضاد، لا سيّما وأنَّ الخطاب القائم على النزاهة والوضوح الأخلاقي يكتسب نوعاً من "الحصانة" مقارنة بالخطاب السياسي المُنظَّم، لذا، ركّزت الهجمات المضادة في الغرب على محاولة نزع المصداقية الشخصية بدلاً من تفنيد الحقائق الإنسانية، وهنا، قد نجحت جلالة الملكة رانيا في تثبيت مصداقيّتها من البداية عبر اختيار المنابر الصعبة؛ مما جعل محاولات التشكيك اللاحقة تبدو وكأنها محاولات يائسة لإسكات صوت العدالة.
وفي الاتجاه ذاته، استطاعت جلالة الملكة رانيا أن تُثبت أنَّ أقوى أسلحة الدبلوماسية وأكثرها جدوى هي النزاهة والوضوح الأخلاقي، مرسخةً قاعدة أخلاقية جديدة للتعامل مع القضية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
05-10-2025 08:16 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |