23-08-2025 11:40 AM
بقلم : د. خالد السليمي
الأردن بين الجغرافيا والتاريخ: بوابة العرب في قلب العواصف
منذ تأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921، والأردن يعيش في قلب معادلة جغرافية صعبة جعلته خط الدفاع الأول عن المشرق العربي، فهو يجاور فلسطين المحتلة منذ نكبة 1948، وعاش تبعات نكسة 1967، واستقبل مئات آلاف اللاجئين من فلسطين والعراق وسوريا، ورغم محدودية موارده الطبيعية، استطاع أن يحافظ على استقراره الداخلي ويثبت نفسه كركيزة توازن وسط صراعات الإقليم، معركة الكرامة 1968 شكّلت لحظة فارقة، حيث وقف الجيش العربي الأردني موقف البطولة ورد العدوان الإسرائيلي، مثبتاً أن الأردن ليس دولة ضعيفة بل دولة ذات إرادة وصلابة، هذه التجربة التاريخية رسمت شخصية الدولة الأردنية: صغيرة جغرافياً، كبيرة في تأثيرها، قادرة على حماية أمنها وهويتها رغم العواصف.
التحديات الداخلية: اقتصاد ضاغط وبطالة متزايدة
رغم دوره الإقليمي، يواجه الأردن تحديات داخلية عميقة، أبرزها الأزمة الاقتصادية المزمنة، فالعجز في الموازنة يتجاوز الـ 3 مليارات دينار سنوياً، والمديونية العامة بلغت أكثر من 110% من الناتج المحلي في 2024، البطالة بين الشباب تتجاوز 22%، ما يُشكل خطراً اجتماعياً واقتصادياً، أضف إلى ذلك أزمة اللاجئين السوريين التي حملت الاقتصاد الأردني كلفة إضافية تقدّر بـ 10 مليارات دولار منذ 2011، ومع ذلك، ظل الأردن مُلتزماً برسالته الإنسانية في استضافة المظلومين، لكن دون أن يتخلى عن المطالبة بدعم المجتمع الدولي، هذه المعادلة الصعبة تكشف صلابة الدولة، لكنها تفرض تحدياً متجدداً على القيادة في كيفية خلق تنمية مستدامة تعالج الفقر والبطالة وتحافظ على السلم الاجتماعي.
الإقليم المضطرب: نار غزة وظلال سوريا والعراق
أحداث غزة منذ أكتوبر 2023 أثبتت أن الأردن ليس بعيداً عن نيران الحرب، فحدوده الغربية تشهد ضغطاً متزايداً نتيجة العدوان الإسرائيلي، بينما الشمال يواجه ارتدادات الأزمة السورية، العراق، من جهته، يظل شريكاً استراتيجياً لكن هشاشة وضعه الداخلي تفرض على الأردن أن يبقى يقظاً، هذه التحديات تحتم على الدولة أن تعزز منظومتها الأمنية والاستخباراتية لمواجهة المخاطر، وهو ما نجح الأردن في إظهاره خلال السنوات الأخيرة، ومع ذلك، يبقى التهديد الأكبر هو احتمالية أي محاولة إسرائيلية لفرض حلول أحادية على حساب الأردن وفلسطين، هنا يظهر دور القيادة الهاشمية التي لا تُساوم على القدس ولا على الهوية الفلسطينية، مُعتبرة أن أي عبث بهذه الملفات سيهدد أمن المنطقة بأسرها.
الدبلوماسية الأردنية: صوت الحكمة في زمن الفوضى
الأردن لم يكتفِ بالتصدي عسكرياً، بل جعل من الدبلوماسية سلاحاً موازياً، خطابات جلالة الملك عبدالله الثاني في الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي، وآخرها في يونيو 2025، أكدت أن حل الدولتين ليس خياراً سياسياً فحسب بل هو ضمانة للسلام العالمي، بفضل هذه الجهود، بات الأردن يُنظر إليه في العواصم الكبرى باعتباره "صوت الاعتدال والعقلانية"، علاقاته المتوازنة مع واشنطن وموسكو وبروكسل تعكس قدرته على التحرك بمرونة، دون أن يفقد بوصلته القومية، ومن هنا، فإن الأردن يقدم نموذجاً فريداً لدولة صغيرة الحجم، لكنها كبيرة الحضور والتأثير، تستخدم أدواتها الدبلوماسية لحماية مصالحها الوطنية والدفاع عن قضايا الأمة.
الأمن الوطني: الحصن المنيع
الأمن كان وسيظل العمود الفقري لاستقرار الأردن، أجهزة الأمن والقوات المسلحة أثبتت أنها قادرة على مواجهة التحديات، من الإرهاب الذي حاول اختراق الحدود، إلى محاولات تهريب المخدرات والسلاح عبر الشمال والشرق، العمليات الأمنية التي أحبطت عدة محاولات إرهابية في 2016 و2019 تثبت أن الأردن يبقى متيقظاً، ومع ذلك، تدرك القيادة أن الأمن لا يقتصر على البعد العسكري، بل يشمل الأمن الغذائي والمائي والاقتصادي، لذلك، فإن استراتيجية الأمن الوطني الأردني هي شاملة، تربط بين الاستقرار الداخلي والقوة الخارجية، وتضع الأردن في موقع الدولة التي تعرف أن أمنها هو بوابة سيادتها وحصن هويتها.
الهوية الوطنية: صمام الأمان في وجه الضغوط
الهوية الأردنية كانت دائماً مستهدفة من مشاريع التوطين أو الطروحات المشبوهة، لكن صلابة الشعب الأردني، وارتباطه بقيادته الهاشمية، جعلت هذه الهوية عصية على التذويب، منذ ثورة العرب الكبرى عام 1916، وحتى مواقف الأردن الثابتة في الدفاع عن القدس، ظلت الهوية الأردنية هاشمية عربية إسلامية جامعة، هذه الهوية ليست مجرد شعارات، بل هي إطار لحماية الدولة من أي محاولة لاختراقها أو إضعافها، هنا تأتي أهمية تعزيز المواطنة والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، لأنها تحصّن الشعب ضد أي اختراق خارجي، وتُبقي الهوية الأردنية قوية ومتماسكة مهما تعاظمت التحديات.
التنمية المستدامة: المعركة الحقيقية للمستقبل
الأردن لا يستطيع أن يبقى رهينة الأزمات الاقتصادية، لذلك، كان لا بد من إطلاق برامج تنموية شاملة، مثل رؤية التحديث الاقتصادي 2033 التي أعلنها جلالة الملك في 2022، هذه الرؤية تركز على قطاعات التكنولوجيا والسياحة والطاقة المتجددة، بهدف خلق مليون فرصة عمل خلال عقد واحد، كما يسعى الأردن إلى تنويع مصادر الطاقة، عبر مشاريع كبرى في مجال الطاقة الشمسية والرياح، لكن نجاح هذه الرؤية يتطلب إرادة تنفيذية قوية، وتحالفاً صلباً بين الدولة والقطاع الخاص والشباب، فالتنمية ليست ترفاً، بل هي معركة وجودية لحماية الأردن من الانزلاق نحو الفقر والبطالة التي قد تهدد نسيجه الاجتماعي.
الدور الإنساني: الأردن ملاذ المظلومين
لم يكن الأردن يوماً دولة منغلقة على نفسها، منذ نكبة فلسطين عام 1948، استقبل ملايين اللاجئين، ورغم العبء الكبير، لم يغلق أبوابه أمام أي مظلوم، استضاف الفلسطينيين، ثم العراقيين بعد 2003، والسوريين بعد 2011، حتى أصبح ثاني أكبر دولة مضيفة للاجئين مقارنة بعدد السكان، هذا الدور جعل منه "ضمير المنطقة" في القضايا الإنسانية، ومع ذلك، يُصر الأردن على أن الحل ليس في الإغاثة المؤقتة، بل في معالجة جذور الصراعات، لذلك يواصل جهوده السياسية في المحافل الدولية، من أجل حل سياسي عادل ينهي المعاناة، ويمنح الشعوب حقها في العيش الكريم.
القيادة الهاشمية: الثبات وسط العواصف
في كل المراحل المفصلية، أثبتت القيادة الهاشمية أنها صمام الأمان للأردن والمنطقة، جلالة الملك عبدالله الثاني، منذ توليه العرش عام 1999، حمل رسالة التوازن والاعتدال، وحافظ على وحدة الصف الداخلي، وعزز مكانة الأردن دولياً، خطابه في البرلمان الأوروبي (17 يونيو 2025) كان تجسيداً لهذه الرؤية، إذ شدد على أن "الأردن لن يتنازل عن دوره التاريخي في حماية القدس، ولن يقبل بأي تسويات تُهدد هوية فلسطين"، هذه القيادة ليست مجرد إدارة سياسية، بل هي امتداد لرسالة الهاشميين منذ مئة عام، رسالة تجمع بين الشرعية الدينية والسياسية والتاريخية، وتؤكد أن الأردن سيبقى دولة صامدة وفاعلة مهما كانت العواصف.
الخاتمة: الأردن وطن الرسالة والهوية
يقف الأردن اليوم عند مفترق طرق تاريخي: تحديات داخلية ضاغطة، وأزمات إقليمية متفجرة، وتحولات عالمية سريعة، لكن تاريخه الطويل يثبت أنه قادر على العبور، فمن معركة الكرامة 1968 التي ردت العدوان، إلى الدبلوماسية الهادئة التي حافظت على التوازن، ظل الأردن قادراً على الجمع بين القوة والاعتدال، ثقة جلالة الملك بقدرات الأردنيين، وإيمان الشعب بقيادته، يُشكلان ركيزة صلبة لمواجهة المرحلة القادمة، الأردن ليس مجرد جغرافيا صغيرة، بل هو وطن الرسالة، وطن يحمي هويته ويخدم قضايا أمته، ويقف شامخاً في وجه من يحاول العبث بمستقبله، وفي زمن الاضطراب العالمي، يظل الأردن نموذجاً في الحكمة والصمود والقدرة على حماية الأرض والإنسان.
التوصيات الاستراتيجية نحو مرحلة أكثر قوة:
1. تعزيز القيادة السياسية عبر تفعيل برامج الإصلاح السياسي وضمان مشاركة شعبية أوسع.
2. تمكين القيادة العسكرية والأمنية بمزيد من الدعم اللوجستي والتقني لمواجهة التحديات الحدودية.
3. خطة اقتصادية وطنية للحد من المديونية وتوليد فرص عمل حقيقية للشباب.
4. تطوير الإعلام الوطني ليكون أكثر تأثيراً في مواجهة الحرب النفسية والإعلامية.
5. تعزيز الهوية الوطنية عبر برامج تعليمية وثقافية تعزز قيم الانتماء.
6. تحالفات إقليمية متوازنة تحمي مصالح الأردن وتدعمه في مواجهة الأطماع.
7. إصلاح إداري شامل لمكافحة البيروقراطية والفساد وتسريع الإنجاز الحكومي.
8. مشاريع طاقة ومياه كبرى لضمان الأمن المائي والطاقي.
9. استراتيجية شاملة للشباب تستثمر في طاقاتهم وتدمجهم في سوق العمل.
10. تفعيل الدبلوماسية الشعبية والرسمية لشرح الموقف الأردني عالمياً، وكسب الدعم لقضاياه القومية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-08-2025 11:40 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |