19-06-2025 08:05 PM
بقلم : د. طارق زياد الناصر
كأردني، أستطيع الاعتراف أمام جميع القراء بأنني لست متفاجئًا بخطاب جلالة الملك عبد الله أمام البرلمان الأوروبي أبدًا؛ والسبب وراء ذلك أننا في الأردن ومنذ تأسيس الدولة أصحاب مشروع إنساني وعروبي، يمتد في جذوره إلى البيت الهاشمي قبل البعثة النبوية المحمدية وبعدها، كما أننا امتداد لحضارات إنسانية سكنت هذه الأرض المباركة ووثقت وجودها بالبنيان والعمران والتنمية.
والبيت الهاشمي بيت سيادة شريف، أقرّت بدوره الأمتان العربية والإسلامية عبر التاريخ، ومارس أبناؤه دورهم تجاه القيم الإنسانية والقواعد الدينية بكل اقتدار وأمانة، وبالتالي فإن المنطق الطبيعي يفرض كون جلالة الملك هو عنوان الحكمة في المنطقة وصوت المنطق فيها.
أما عن الدولة الأردنية الحديثة، والتي بُنيت على قواعد الدولة المؤسسية الراسخة في جذورها لمفهوم المدنية المتحضرة، وسط منطقة ملتهبة تتقاذف نيرانها تحركات أصولية راديكالية، تستخدم لغة العنف كأساس بنيوي في أيديولوجيتها وخطابها نحو الآخر؛ فقد جمع جلالة الملك في إرثه السياسي الوطني وثوابته الإنسانية، القواعد الراسخة للدولة الأردنية والقيم الإنسانية الحنيفة من بيت النبوة المصطفوي، فكان الملك العربي الهاشمي القادر على تعزيز بناء الدولة، والحفاظ على دورها السياسي، ليس على مستوى المنطقة والإقليم فحسب، بل على مستوى العالم بأكمله.
هذا الدور اللافت لجلالة الملك، مرده في الأصل إلى أن القيادة الهاشمية تتفرد في الفكر والعقيدة، والقدرة الطبيعية للتأثير الحقيقي؛ بالإضافة إلى امتلاك الدولة الأردنية لخبرات أصيلة في مختلف المجالات، تؤهلها بالمجمل للعب دور عالمي أكثر سعة، وتحديدًا في قضايا المنطقة والأزمات الناشئة فيها، مع مجتمع واع قادر على فهم ما يجري حوله والتصرف ضمن المعطيات المتاحة.
وفي الوقت الذي يمارس فيه الملك نشاطًا دوليًا متنوعًا، متسارعًا ونوعيًا في قضايا الأمن الإقليمي، السلام، المناخ، العمل الإنساني، الإرث الحضاري والديني، والحضور في المؤسسات الدولية والإنسانية؛ نجده أيضًا المبادر دائمًا لإعادة تشكيل الرأي العام الدولي، على المستوى النخبوي والشعبي، والقادر على تحريك وسائل الإعلام الدولية بالاتجاه الذي يرسمه في نشاطه الدبلوماسي وخطاباته السياسية، بل ويعتبر جلالته الزعيم العربي الأقرب لوسائل الإعلام العالمية.
وعلى صعيد لقاء جلالته مع البرلمان الأوروبي، فلا بد من الإشارة أولًا إلى كون الملك هو أكثر من خاطب البرلمان الأوروبي من القادة العرب والمسلمين.وتعد لقاءات جلالته بالبرلمان محطات استراتيجية رئيسة، تعكس مكانة الأردن ودوره المحوري في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وتكمن أهمية مثل هذا اللقاء في أنه يوفر منبرًا دوليًا مرموقًا لصوتٍ عربي إسلامي معتدل، يُمثل القيم المشتركة، ويدافع عن القضايا العادلة وحقوق الشعوب في العيش بكرامة وسلام، هذا الصوت القادم من هذه الأرض التي تحتضن أرضها أقدم الكنائس ودور العبادة المسيحية وأرض عماد السيد المسيح في المغطس، ومن عميد الأسرة الهاشمية والوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف.
كما يُشكّل الحضور الأردني بقيادة الملك، مساحة للتأكيد على أهمية العودة إلى البوصلة الأخلاقية في السياسة الدولية، والدعوة إلى حلول سياسية عادلة للصراعات، وبناء شراكات مستدامة قائمة على الاحترام المتبادل، وتوظيف التنمية لخدمة الإنسان في المنطقة والعالم، وحماية جذور سكان المنطقة العربية من كل الأجناس والأديان.
أما عن توقيت الخطاب، فأن يأتي هذا الخطاب لممثلي المنظومة الأوروبية سياسيًا، في الوقت الذي تمارس فيه دولة الكيان اعتداءً صارخًا على منظومة القانون الدولي، وتُشكل حالة من عدم الاستقرار الأمني في المنطقة بسبب سياساتها الأحادية، وتُعرض مصالح العالم العربي والإسلامي للخطر؛ فهذا دليل على أن صوت الحكمة هو المطلوب، وأن الأردن يمتلك الأدوات التي تساعده بامتلاك الكلمة المسموعة في هذه المرحلة، وتقديم حلول قابلة للتطبيق لإنهاء النزاعات.
وأما عن الرسائل الملكية التي جاءت في الخطاب، فتقوم على الدعوة الأخلاقية للعدالة الإنسانية التي يضمنها جوهر الديانات السماوية، ورفض الصمت أمام معاناة الفلسطينيين، خصوصًا في غزة، التي بات أطفالها عنوانًا لمشاريع الموت أو الدمار؛ والدعوة لبناء استراتيجية شاملة تدمج بين التنمية والسلام والأمن، مع ممارسة أوروبا في هذا المشروع مسؤولية المنهج الأخلاقي، مع التأكيد على دعم الحل السياسي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، القائم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وفق القرارات الدولية.
في الحقيقة، كل ما حمله الخطاب وضع الاتحاد الأوروبي أمام مجموعة من التحديات:
أولها، طرح الأسئلة الإنسانية والسياسية خارج صندوق المصالح التقليدية، وقراءة شكل المستقبل في ظل لغة التجويع والقتل في المنطقة.
وثانيها، ضرورة الخروج من صراع الثنائيات بين السلطة والمبدأ، وبين حكم القانون أو حكم القوة.
وليس آخرها، ضرورة تبني أساليب وأدوات عادلة في الدخول إلى المستقبل، وقد وصلنا إلى أفكار ووجهات نظر مشتركة، وتجاوز صراعات النفوذ السياسي أو الاقتصادي، أو حتى الفكري.
وفي الختام، ما نريده اليوم هو بناء منظومة متكاملة من العمل السياسي والإعلامي، لتشكيل حوار عالمي حول قيم خطاب جلالة الملك، والتأكيد على اصطفاف الجبهة الوطنية الداخلية خلف جلالة الملك، في مواجهة خطاب الكراهية الإقليمي، لصالح السلم والتنمية، وتوسيع قاعدة الاشتباك مع جيل الشباب حول القضايا التي يتبناها الأردن، باعتبارها جزءًا من هويتهم السياسية؛ والدعوة لإعادة بناء الأولويات في المنطقة، وفقًا للرؤى التي يقدمها جلالة الملك، وإسهامنا جميعًا في نقل هذا المشروع القومي والخطاب الأردني إلى حيّز التنفيذ.
وفي الوقت ذاته، المطلوب من العالم، وخاصة دول المنطقة، أن تستمع لصوت الحكم الهاشمي بأذنٍ صاغية، وعقلٍ متدبر.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-06-2025 08:05 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |