14-06-2025 01:02 PM
بقلم : د. خالد السليمي
العواصف الإقليمية المتصاعدة
في خضم العواصف الإقليمية المتصاعدة، حيث تُقصف العواصم، وتُغتال القيادات، وتُستهدف البُنى النووية والعسكرية في وضح النهار، يقف الأردن على مفترق طرق استراتيجي: هل الأولوية اليوم للتحصين الداخلي أم للتسلّح والردع؟ باتت الأحداث من طهران إلى تل أبيب، ومن دمشق إلى بغداد، تُشكّل ضغطاً مضاعفاً على أمننا الوطني وهويتنا السياسية، في ظل هذا المشهد المتحوّل، لم يعد التهديد محتملاً بل بات حتمياً، وعليه، فإن التفكير السطحي أو العابر لم يعد مقبولاً، بل بات مطلوباً منّا إعادة هندسة أمننا القومي من الداخل، بوصفه خط الدفاع الأول، وشرط البقاء في معادلة صراعات الكبار.
اغتيال قاسم سليماني - شرارة التوازنات الكبرى (3 كانون الثاني 2020)
في لحظة خاطفة من فجر بغداد، سقط الجنرال قاسم سليماني، الرجل الذي حمل خرائط النفوذ الإيراني عبر أربع عواصم عربية، بضربة دقيقة من طائرة أمريكية مسيّرة، كانت تلك الضربة أكثر من مجرد عملية تصفية، كانت بداية هندسة جديدة للشرق الأوسط، حيث أصبح مقتل القيادات المحورية رسالة ثابتة في العقيدة الأمريكية-الإسرائيلية: لا حصانة لأحد، وبالنسبة للأردن، فإن هذا الحدث يجب أن يُقرأ بعين الأمن الوطني لا الدبلوماسية فقط، إذا كانت القوى الكبرى قادرة على الوصول إلى رأس الحربة الإيرانية في قلب العراق، فإن أي دولة متراخية في أمنها الداخلي، أو مثقلة بشبكات خارجية تخترق نسيجها، ستكون عُرضة للتفكك، ومن هنا، لا بد أن تبدأ الاستراتيجية الأردنية بـ "تطهير العمق"، وتعزيز الجبهة الداخلية سياسياً، أمنياً، واستخباراتياً، قبل التفكير في سباقات التسلح أو التحالفات.
انهيار السيادة السورية تحت ضربات دقيقة (2020–2023)
منذ بداية 2020، تسارعت وتيرة الضربات الإسرائيلية الدقيقة التي استهدفت مواقع عسكرية سورية ومخازن أسلحة إيرانية في دمشق، مصياف، حلب، وحمص، في فبراير 2022 وحده دمّرت إسرائيل منشأة لتصنيع الطائرات المسيّرة قرب مطار دمشق، وقُتل خلالها عدد من الخبراء الإيرانيين، في مايو 2023 استهدفت الغارات مطار حلب الدولي وأخرجته عن الخدمة، هذه العمليات لم تلقَ أي رد يُذكر من النظام السوري أو حلفائه، مما يسلّط الضوء على هشاشة السيادة، وانكشاف أنظمة الدفاع، على الأردن أن يستخلص درساً وجودياً من الجارة الشمالية: الدولة التي لا تملك قدرة استخباراتية متقدمة، أو بنية دفاعية مستقلة، ستُستباح من الجميع، فالتحصين لا يعني فقط تحصين الحدود، بل تحصين منظومة القرار، المعلومات، والبنية الدفاعية الوطنية.
اغتيال قادة حزب الله بدقة متناهية (2021-2024)
بينما كانت الضاحية الجنوبية تتباهى بصواريخها، كانت الطائرات الإسرائيلية تحصد أبرز قيادات حزب الله في ضربات خاطفة لم تترك أثراً سوى في الجدران المهدمة، في نوفمبر 2023 اغتيل القيادي البارز حسين يزبك بقصف مباشر في البقاع، وفي فبراير 2024 تم تدمير غرفة عمليات ميدانية بالكامل في جنوب لبنان كانت تضم خبراء من إيران وحزب الله، هذه الضربات لم تُعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها رسمياً، لكنها رسّخت مفهوم "القتل الوقائي"، الأردن، الذي يواجه في بعض مناطقه اختراقات فكرية وتنظيمية لأذرع مشابهة، يجب أن يعيد هندسة أمنه الوطني على أساس منع بناء مراكز نفوذ موازية داخل الدولة، سواء كانت فكرية، سياسية، أو أمنية.
تدمير البنية القيادية لحماس في لبنان وإيران (2023-2024)
خلال أكتوبر 2023 ووسط الحرب في غزة استهدفت إسرائيل عمارة سكنية في الضاحية الجنوبية لبيروت قُتل فيها مسؤول التنسيق الخارجي في حماس "سامي الهور"، وفي يناير 2024 اغتيل "صالح العاروري"، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، في غارة استخباراتية معقدة داخل الضاحية، وقبلها بأسابيع، طالت الضربات "علي البركة" في صيدا، وفي مارس 2024، تم استهداف خلية تنسيق بين حماس والحرس الثوري في أصفهان، إيران، هذه التطورات تؤكد أن العدو أصبح لا يعترف بالسيادة، وأن من يصطف مع أي طرف يصبح هدفاً مشروعاً، المطلوب أردنياً ليس "النأي بالنفس"، بل بناء عقل أمني استباقي، يرصد ويمنع تكوّن بؤر خارجية فوق الأراضي الأردنية.
تصعيد إسرائيل ضد إيران - ضربات العمق النووي (أبريل 2024)
في منتصف أبريل 2024، نفذت إسرائيل سلسلة ضربات جوية استهدفت مواقع نووية إيرانية في نطنز وأصفهان وأراك، موقعة أضراراً جسيمة، ومعلنة انتهاء الخطوط الحمراء، الضربة استهدفت أيضاً معامل تحت الأرض، تُستخدم لتخصيب اليورانيوم، هذا الحدث قلب معادلة الردع، ودشّن عصر "المواجهة في العمق"، في ظل هذا التصعيد، يجب أن يُدرك الأردن أن الساحة أصبحت مفتوحة، وأن انزلاق المواجهة نحو العراق أو سوريا قد يُهدد أمنه القومي المباشر، هنا، لا بد من إعادة تموضع استراتيجي عسكري واستخباراتي، وتعزيز التنسيق الميداني مع كل الوحدات الميدانية والأمنية على الحدود.
اغتيال القادة الإيرانيين في سوريا والعراق (2020-2024)
من أبرز العمليات: مقتل "محمد رضا زاهدي"، قائد لواء القدس في سوريا، في مارس 2024 بغارة جوية إسرائيلية على ضاحية السيدة زينب، وقبله مقتل "أبو مهدي المهندس" في بغداد، العمليات التي استهدفت هؤلاء لم تكن مجرد تصفيات، بل تفكيك ممنهج للعمود الفقري العسكري الإيراني خارج إيران، هذا يؤكد أن ساحات "الدعم غير المباشر" لم تعُد آمنة، وأن أي بنية غير نظامية (سواء في العراق أو غيره) قد تُمحى خلال دقائق، بالنسبة للأردن، فإن أي تغافل عن تنامي قوى غير مرئية داخل المدن والمخيمات والجامعات قد يجعلنا أمام خلايا نائمة جاهزة للاشتعال عند أول صدمة.
تفجير البيجرات في لبنان – الحروب النفسية والسيبرانية (2024)
في يونيو 2024، شهدت العاصمة اللبنانية سلسلة انفجارات في مراكز بيجرات إعلامية إلكترونية محسوبة على محور المقاومة، يُعتقد أن طائرات مسيّرة إسرائيلية نفذتها بالتنسيق مع هجمات سيبرانية عطّلت أنظمة التحكم، هذه الضربة النوعية لم تكن عسكرية، بل نفسية - دعائية بامتياز، هدفها تقويض المعنويات والسيطرة على الخطاب، على الأردن أن يقرأ هذا الدرس بعناية: التحصين لا يكون بالسلاح فقط، بل عبر بناء منظومة إعلام وطني استراتيجي، وتحصين الفضاء الرقمي الأردني من الاختراق والتضليل والتعبئة الخارجية.
ضرب القواعد الجوية الروسية في العمق (2025)
من أبرز المستجدات في 1/6/2025 استهداف قاعدة "إنغيلز" الاستراتيجية الروسية داخل الأراضي الروسية بطائرات مسيّرة متطورة من صنع أوكراني-غربي، ما أخرج قاذفات استراتيجية من الخدمة، الرسالة العالمية هنا أن السيادة لم تعُد مرتبطة بالجغرافيا، الأردن الذي تحيط به ثلاث جبهات محتملة للاشتعال، يجب أن يبني (منظومة دفاع جوي–سيبراني–استباقي ثلاثي الأبعاد)، لأنه لم يعُد كافياً الاعتماد فقط على التحذيرات أو التعاون التقليدي، بل على هندسة وطنية دفاعية مستقلة وقوية.
ما بين التحصين والتسلح – لحظة الاختيار الأردنية
بين تحصين الداخل والتسلّح للردع، تقف الدولة الأردنية أمام مفترق طرق استراتيجي، التسلّح بلا تحصين هو مغامرة قد تُخترق من الداخل قبل أن تبدأ، والتحصين دون قدرة ردع هو ضعف في ميزان الردع الإقليمي، الحل ليس في المفاضلة، بل في الترتيب: التحصين أولاً، ثم بناء الردع الذكي القائم على المعلومات، والمرونة، والتحالفات الذكية، المطلوب اليوم غربلة الداخل من العملاء، تفكيك شبكات التخريب، بناء وعي وطني موحد، وربط العمل الاستخباراتي بالقرار السيادي.
استراتيجية – الأردن أولاً وأمنه أولاً وولاؤه لنفسه أولاً
ما يمر به الإقليم ليس عاصفة عابرة، بل إعادة تشكيل شامل للخريطة، من لم يتحصن اليوم، سيُستخدم غداً، ومن لم يبنِ لنفسه درعاً، سيوضع في مرمى النيران دون أن يدري، الأردن، بقيادته، شعبه، ومؤسساته، يملك فرصة ذهبية لصياغة معادلته الخاصة: تحصين عميق يبدأ من الأمن الداخلي، مروراً بالبنية الفكرية والتعليمية والإعلامية، وصولاً إلى سياسة خارجية واقعية ذكية، تبني شبكة تحالفات مرنة لا ارتهان فيها لأحد، التحدي ليس فقط في مواجهة الأعداء، بل في حماية الدولة من أعدائها الصامتين في الداخل، فالبقاء في عصر الحروب الحديثة لا يكون إلا للأذكى، والأكثر وعياً، وتحضيراً.
الاستراتيجيات المطلوبة أردنياً حين يصبح البقاء قراراً سيادياً لا خياراً طارئاً
في زمن تتكسر فيه الجغرافيا أمام نيران الجيوسياسة، لم يعُد بوسع الدول الصغيرة أن تنتظر الحماية من أحد، ولا أن تراهن على توازنات عابرة تصوغها مصالح الكبار، لقد أثبتت الأحداث الأخيرة من طهران إلى بيروت، ومن دمشق إلى أعماق روسيا، أن الأمن لم يعُد محصوراً في السلاح وحده، بل في عمق التحصين الداخلي، ونوعية الردع، ومتانة الجبهة الوطنية، إن المملكة الأردنية الهاشمية، بما تواجهه من ضغوط إقليمية شديدة التقلب، باتت مطالبة اليوم (لا غداً) بإعادة تعريف مفردات سيادتها واستراتيجيات بقائها، البقاء لم يعُد غريزة فقط، بل منظومة قرار، والتحصين لم يعُد رفاهاً إدارياً، بل جوهر الاستقلال، وفي هذا السياق، تبرز عشر استراتيجيات رئيسية، مستخلصة من تجارب الدول العظمى، تُشكّل خارطة طريق للثبات وسط الزلازل القادمة، وتحوّل الدولة من حالة الترقب إلى مركز الفعل والتأثير، تتمثل أهم هذه الاستراتيجيات بما يلي:
تصفير الثغرات الداخلية عبر الأمن الوقائي العميق. تبدأ أعظم الدول ببناء استقرارها من الداخل، عبر أجهزة أمنية واستخباراتية ترتكز على اليقظة الوقائية لا ردود الفعل، المطلوب أردنياً هو تنفيذ عمليات رصد، تحليل، وتحقيق على مدار الساعة داخل كل القطاعات الحساسة، لتفكيك أي بؤر شاذة قبل أن تتحول إلى خنادق داخل الدولة، التحصين ليس إجراءً أمنياً فحسب، بل فلسفة سيادية.
غربلة النسيج الوطني من الولاءات الموازية. الانتماء المتشظي يُشكل أخطر قنبلة ناعمة في جسد الدولة، يجب بناء منظومة وطنية تقوم على إعادة هندسة الوعي الجمعي، عبر التعليم، الإعلام، والخطاب الديني، لتجفيف منابع الولاء العقائدي العابر للحدود، لا يمكن ردع الخارج إذا ما ظل الداخل رهينة أفكاره وممثليه غير المرئيين.
إعادة هندسة الإعلام الوطني كدرع سيادي. الدول العظمى تعتبر الإعلام الاستراتيجي أحد أذرع الردع الشامل، المطلوب أردنياً هو تأسيس إعلام وطني ذكي، سيادي، لا ينقل فقط الأحداث، بل يُشكّل الرأي العام، ويوجه الوعي الجمعي، ويُفسد معارك العدو النفسية قبل أن تنضج.
التحصين السيبراني الكامل للبنية التحتية الوطنية. تعمل القوى العظمى على اعتبار كل منشأة مدنية (من المياه إلى الطاقة إلى الاتصالات) هدفاً محتملاً للهجمات السيبرانية، الأردن مطالب ببناء "جدار سيبراني سيادي" يعزل شبكاته الحيوية عن الاختراق، عبر الاستثمار في الكوادر السيبرانية الوطنية وتقنيات الدفاع المتكيفة.
تحصين القرار السيادي من الاختراق المعلوماتي. أثبتت التجارب الأمريكية والروسية أن تسريب القرار أو اختراق مراكز القيادة العليا قد يُفشل دولة بأكملها، لا بد من بناء نظام أمني محاط بطبقات معلوماتية محصنة، تجعل من محاولات التجسس أو التجنيد أو التلاعب في القرار الوطني عملية مستحيلة.
تطوير منظومة الاستخبارات البشرية–التقنية الهجينة. الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا اعتمدت نماذج استخباراتية هجينة تمزج بين العنصر البشري عالي التدريب، والتقنيات الحديثة في التحليل والاختراق والتوقع، الأردن بحاجة إلى إعادة رسم منظومة استخباراته الوطنية على هذا الأساس، لتصبح أكثر قدرة على الاحتواء والتنبؤ والردع.
إعادة تعريف العقيدة العسكرية الأردنية وفق تهديدات اليوم. التسلح ليس بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بمدى قدرة العقيدة القتالية على الاستجابة السريعة والمرنة، يجب أن تُبنى العقيدة العسكرية الأردنية على مفهوم "الردع الذكي"، القائم على المرونة، المناورة، والتحالفات السيادية، لا على الاستنزاف التسليحي غير المجدي.
توسيع دائرة الردع التكنولوجي العسكري بدلاً من الرد التقليدي. قامت دول مثل كوريا الجنوبية وتركيا ببناء تفوق نوعي عبر المُسيّرات، الحرب الإلكترونية، والصواريخ الدقيقة منخفضة التكلفة، بدلاً من الجيوش الكلاسيكية، على الأردن توجيه استثماراته نحو سلاح تكنولوجي متقدم يضمن الرد السريع والدقيق من دون استنزاف.
تعزيز التحالفات الإقليمية الذكية لا الارتباطات العمياء. تتجه الدول الذكية لبناء شبكة تحالفات مرنة، غير خاضعة للإملاءات أو الإذعان، المطلوب أردنياً هو بناء محور (الأردن – مصر -العراق- دول الخليج) يقوم على مصالح أمنية واقتصادية مشتركة، مع الإبقاء على حرية القرار الوطني، بما يحصّن المملكة من عزلة أو ابتزاز.
مأسسة الأمن الوطني الشامل كمنظومة مستدامة لا حالة طارئة. الأمن ليس مناسبة موسمية ولا ردة فعل مؤقتة، الدول الكبرى تبني أمنها ضمن منظومة مؤسساتية تتكامل فيها الوزارات، الدوائر، والأجهزة في مشهد واحد، الأردن يحتاج إلى (قيادة عليا دائمة للأمن الوطني الشامل) ترتبط مباشرة بمركز القرار، لتضمن تكامل الأمن الداخلي والخارجي في وقت السلم وأثناء الأزمات.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-06-2025 01:02 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |