05-06-2025 08:17 AM
بقلم : نضال أنور المجالي
في ذلك الفجر البارد، حيث كانت الطبيعة نفسها تتأهب لصراع يوم جديد، لم تكن منطقة التدريب العسكرية مجرد مساحة خضراء أخرى في الأردن. كانت بوتقة تُصهر فيها الأرواح، تُصقل فيها الشجاعة، وتُولد فيها الأساطير. وبينما كان الضباب الكثيف يلف الأشجار كوشاح غامض، وهمسات العسكريين تتداخل مع أصوات المعدات، كان هناك مشهد واحد سيظل محفوراً في ذاكرة من شهدوه: مشهد الأمير الشاب، الذي لم يكن يعرف أحد حينها أنه سيُصبح ملكًا، وهو يخوض طقسًا يوميًا بسيطًا ولكنه عميق المعنى.
لم يكن الأمير عبد الله في قصره، تحيط به فخامة العروش وبروتوكولات الملكية. كان هنا، في قلب الميدان، مجرد جندي آخر يرتدي الزي المموه الذي يمحو الفوارق والرتب. كانت أصابع الصقيع تتسلل تحت الأكمام، لكنه وقف ثابتًا، يتجاهل قسوة البرد التي كانت تجعل أطراف رفاقه ترتجف. من جيب زيّه العسكري، أخرج شفرة حلاقة زرقاء عادية ومرآة صغيرة عتيقة، تعكس آثار الزمن ووجوهًا لا تُعد ولا تُحصى.
أغمض عينيه، وارتسمت على وجهه ملامح التركيز المطلق. لم تكن هذه مجرد حلاقة عادية، بل كانت لحظة تأمل، طقسًا يربطه بأرضه ورفاقه. كل حركة كانت محسوبة، كل ضغطة على الشفرة كانت دليلاً على انضباط لا يتزعزع. حوله، الجنود يعدّون قهوتهم الساخنة، أو يتفحصون أسلحتهم بصمت، لكن نظراتهم كانت تسرق لحظات تجاه الأمير. كانوا يرون فيه ليس فقط أميرًا، بل رفيقًا، زميلاً يشاركهم المشقة والتعب.
بصفتي عسكريًا متقاعدًا، وأنا نضال أنور المجالي، شهدت الكثير من المواقف التي تُظهر جوهر القيادة. لكن هذه اللحظة بالذات، هذه الحلاقة الصباحية في العراء، كانت أكثر من أي خطاب رسمي أو احتفال عسكري. كانت صرخة صامتة تؤكد: "أنا منكم، وبيكم". كانت هذه الصورة تحكي قصة القائد الذي لا يخشى أن يتساوى مع جنوده، القائد الذي يعرف أن القيادة الحقيقية تولد من قلب المعاناة المشتركة والتواضع المطلق.
كان الأمير يبني جسور الثقة والمحبة، لا بالكلمات، بل بالأفعال. كل شعرة تسقط من ذقنه كانت تروي فصلاً جديدًا في كتاب إعداد الملك، الذي سينهض من هذا الميدان ليحمل أمانة وطن. كانت تلك اللحظة تجسيدًا حيًا لفلسفة قيادية عميقة: أن القائد الحقيقي هو من يذوب في تفاصيل حياة شعبه، من يعيش تحدياتهم، ومن ينحت تجربته في صخور الميدان.
بعد أن انتهى الأمير من حلاقته، فتح عينيه، وبدت في نظراته لمسة من الصفاء والتصميم. وضع أدواته بهدوء، ثم استدار نحو رفاقه، وجهز نفسه لتدريبات اليوم. لم تكن تلك مجرد صورة عابرة، بل كانت لقطة تاريخية تجمدت فيها حقيقة راسخة: أن الملك الذي يقف على عرش الأردن اليوم، قد صُقل في قلب الميدان، وعاش تجربة الجندي البسيط، ليكون قائدًا ملهمًا يستمد قوته من تواضعه وانتمائه العميق لأرضه وشعبه.
إنها قصة ليست للنشر فحسب، بل لتُروى للأجيال، لتحكي كيف أن الأساطير تُصنع ليس في بريق القصور، بل في صقيع الفجر، بشفرة حلاقة بسيطة، في قلب الميدان.
حفظ الله الاردن والهاشمين
المتقاعد العسكري
نضال انور المجالي
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
05-06-2025 08:17 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |