26-11-2025 03:40 PM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
يقدّم القرآن في حديثه عن الإنسان رؤية تربوية تتجاوز ظاهر السلوك إلى جوهر النفس؛ رؤية تُعيد تشكيل الوعي من الداخل قبل أن تهذّب الحركة في الخارج. وفي قلب هذه الرؤية تبرز معادلة دقيقة تُوجّه الإنسان في تربيته لذاته ولغيره: معادلة الاحتياج والاستغناء؛ احتياج يفتح باب الهداية، واستغناء يكشف جوهر الامتحان.
فالإنسان، في التصور القرآني، لا يتحدد بما يملك من مهارات أو موارد، بل بما يشعر به من افتقار إلى ربه. هذا الاحتياج هو لحظة الوعي الأولى، النقطة التي يبدأ منها البناء التربوي الحقيقي. فالآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ لا تريد من الإنسان الانكسار، بل تريد منه أن يعرف مصدر قوته. فالاحتياج هنا ليس ضعفاً، بل مربّي الهداية؛ لأنه يعيد الإنسان إلى موقع التعلّم، ويجعل قلبه قابلاً للتغيير، وروحه مستعدة لتلقي الحكمة. وفي المقابل، يحذّر القرآن من لحظة الاستغناء؛ تلك اللحظة التي يخدع فيها الإنسان نفسه، فيظن أن قدره بيده وحده، وأن ما يملك يغنيه عن النظر إلى فوق. وهنا يتدخل القرآن ليكشف الجذر التربوي للانحراف: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾. فالطغيان – في جوهره – ليس جناية قوة، بل ثمرة وهم. وهنا تتجلى رسالة التربية القرآنية: إصلاح الشعور قبل تعديل السلوك؛ لأن السلوك لا يضلّ إلا حين يضلّ الشعور. ومن دقائق التربية القرآنية أن تتجسد هذه المعادلة في مثال القرية الآمنة المطمئنة التي جاءها رزقها بلا طلب. فقد امتلكت ما يجعلها قوية، لكنها افتقدت ما يجعلها مستقيمة: الوعي بالنعمة. وحين فُقد هذا الوعي، لم يضطرب اقتصادها أولاً، بل اضطرب قلبها: غابت الطمأنينة، ثم الأمن، ثم استقرت العقوبة في عمق الوجود: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ﴾. إنها قراءة عميقة تربط بين فساد الشعور وفساد الواقع، وتعلّم الإنسان أن أول خطوات الضلال تبدأ من داخل النفس، لا من خارجها.
إن التربية القرآنية لا تنظر إلى الاحتياج باعتباره نقصاً، بل باعتباره منهجاً لبناء الإنسان؛ منهجاً يجعله يقظاً، متواضعاً، قادراً على التعلم، محصّناً من الغرور. كلا المعنيين –الاحتياج والاستغناء ليسا حالتين نفسيتين فحسب، بل هما أدوات تربوية ترسم مسار الوعي: فالاحتياج يفتح القلب على الله، فيتربى الإنسان على التواضع والرحمة والسكون. والاستغناء الواعي يحرره من الخضوع لغير الله، ويغرس فيه الشجاعة والكرامة والاستقلال. وبين هذين الحدين يولد الإنسان المتزن: لا ضعيفاً ينهزم أمام العالم، ولا متكبّراً يغرّه وهم القوة، بل إنساناً يتقدم بثقة، ويرجع إلى الله ببصيرة، ويعيش النعمة من موقع الامتنان لا الامتلاك. إن نظرية الاحتياج والاستغناء في المفهوم القرآني ليست خطاباً عقائدياً مجرداً، بل مشروعاً تربوياً كاملاً؛ يعلّم الإنسان كيف يقرأ نفسه، وكيف يدير مشاعره، وكيف يضبط علاقته بالدنيا، وكيف يحافظ على توازنه الروحي في زمن كثرت فيه المغريات واشتد فيه الغرور الإنساني. فالإنسان، في النهاية، لا يكتمل تربوياً ولا روحياً إلا حين يعرف موضعه الحقيقي: محتاجاً إلى الله، مستغنياً عمّا سواه.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-11-2025 03:40 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||