24-11-2025 12:09 AM
بقلم : د. مثقال القرالة
في المشهد الافتتاحي السنوي، حيث تصطف الكاميرات وتتلألأ الإضاءة في قاعةٍ رسمية محكمة، يُرفع الستار عن الموازنة العامة للدولة كما لو كانت عرضاً وطنياً مهيباً يُراد له أن يبعث الطمأنينة والثقة. تتراقص الأرقام على شاشات العرض كأحجار كريمة مصقولة بعناية، تصاحبها بياناتٌ تفيض بالتفاؤل، وخطابات رسمية تؤكد أن كل دينار وُضع في موضعه الصحيح، وأن كل خطةٍ تموَّلت بالكامل، وأن عجلة التنمية تدور بلا عوائق. غير أن ما يختبئ خلف هذا المشهد الاحتفالي المهيب، هو سؤالٌ جوهريٌّ يتجاوز صخب التصفيق: هل هذه الأرقام صادقة في تمثيلها للواقع الاقتصادي، أم أنها مجرد رموزٍ تجميلية تزين تقارير الأداء المالي دون أن تمس جوهر التنمية؟. ففي علم الاقتصاد والمحاسبة العامة، الموازنة ليست وثيقة إعلامية تُقرأ في المؤتمرات، بل هي أداة استراتيجية تتقاطع عندها السياسة المالية مع الحقيقة المحاسبية. إنها عقدٌ وطنيٌّ بين الدولة والمواطن، يُبنى على أسس التدفق النقدي الحقيقي، ويرتكز على مبادئ الالتزام المالي والرقابة المستمرة. فالموازنة الناجحة لا تُقاس بعدد صفحاتها أو جمالية جداولها، بل بمقدار انضباطها المحاسبي، ودقتها في إدارة الانحرافات المعيارية بين التقدير والتنفيذ، وقدرتها على تحويل كل بندٍ إنفاقي إلى أثرٍ ملموسٍ في حياة المواطن.
لكن ما يحدث في كثيرٍ من الأحيان، أن الموازنة تُصاغ بمزيجٍ من التفاؤل السياسي والتحفّظ البيروقراطي، فتصبح مزدوجة الوجه: وجهٌ رسميٌّ أنيق يتحدث عن الإنجازات، ووجهٌ واقعيٌّ يئنّ تحت وطأة الالتزامات غير الممولة والمشاريع المؤجلة. كم من بندٍ رأسماليٍّ أُدرج تحت عنوان "مشاريع البنية التحتية" ثم أُعيد توجيهه لتغطية نفقات جارية أو عجزٍ في بند الرواتب؟ وكم من اعتمادٍ ماليٍّ رُصِد لتنمية المحافظات، لكنه بقي حبيس الأوراق بسبب سوء التخطيط المالي أو غياب المتابعة المحاسبية الدقيقة؟ تلك هي الفجوة بين المحاسبة الورقية والمحاسبة الحقيقية؛ الأولى تكتفي بتوازن الأرقام في الدفاتر، أما الثانية فتبحث عن أثر الدينار في الشارع والمستشفى والمدرسة. كما إن غياب منظومة "التتبع المالي الشامل" وهو النظام الذي يربط كل دينارٍ من لحظة اعتماده في الموازنة حتى صرفه الفعلي يجعل من السهل أن تضيع الأموال في متاهة البنود، وأن تتآكل الأولويات أمام الضغوط اللحظية. فالمحاسبة الحكومية الحديثة تقوم على مبدأ الشفافية التشغيلية، والمساءلة المستمرة، والرقابة المسبقة واللاحقة معاً، بحيث يصبح كل دينارٍ محكوماً بسلسلةٍ من الإجراءات الموثقة، وكل انحرافٍ في التنفيذ مبرراً ومدروساً. والأخطر من كل ذلك، أن هذه الفجوة لا تُضعف الأداء الاقتصادي فحسب، بل تُهدر رأس المال الأهم في أي دولة: ثقة المواطن.
وحين نتحدث عن الثقة، فإن أولى مظاهرها تبدأ من قدرة الدولة على صون كرامة موظفيها ومُتقاعديها. هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن، يتابعون جلسات إقرار الموازنات بقلوبٍ مثقلةٍ بالأمل والخوف، ينتظرون أن تشملهم بشائر الزيادات التي طال انتظارها. لكن عاماً بعد عام، تتكرر الوعود ذاتها: "تحسين الأوضاع المعيشية قريب"، "زيادة الرواتب قيد الدراسة"، "الموازنة القادمة ستأخذ ذلك بالحسبان"، غير أن الواقع يبقى كما هو، والأسعار تتسابق صعوداً بينما الرواتب تتآكل صمتاً. لا يُعقل أن تُنفق الموازنات على مشاريع مؤجلة، وتُترك الفئات العاملة والمتقاعدة تعاني من فجوةٍ متنامية بين الدخل وكلفة المعيشة. فزيادة الرواتب ليست منّة، بل هي استحقاقٌ وطنيٌّ واقتصاديٌّ في آنٍ واحد، لأنها تعيد التوازن إلى السوق الداخلي، وتحفّز الإنفاق الاستهلاكي، وتدعم عجلة الإنتاج الوطني. الموظف الذي يشعر بالأمان المالي يصبح أكثر إنتاجية وإخلاصاً، والمتقاعد الذي يُكرَّم بتحسين دخله يشعر أن الدولة لا تنساه بعد أن يطوي سجل خدمته. أما ترك الرواتب في مكانها وسط تضخمٍ متسارع، فهو إضعافٌ متعمد للطبقة الوسطى التي تمثل صمّام الأمان الاجتماعي للوطن. كما إن وعود الحكومات المتكررة بزيادة الأجور دون تنفيذٍ فعليٍّ تُحوّل الثقة العامة إلى حالةٍ من الشك واللامبالاة، وتُعمّق الهوّة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي. فالإصلاح الحقيقي لا يبدأ من المؤتمرات ولا من المنصات الإعلامية، بل من قرارٍ صادقٍ يضع الإنسان قبل الأرقام، ويعيد توزيع أولويات الإنفاق بحيث تُوجَّه الموارد نحو حياةٍ كريمةٍ للموظف والمُتقاعد والمواطن البسيط.
إن الأردن اليوم بحاجةٍ إلى موازناتٍ تعكس الواقع لا تُزيّنه، وإلى منهجٍ محاسبيٍّ وطنيٍّ يربط بين الأداء المالي والأثر الاجتماعي. يجب أن تتحول الموازنة إلى "عقدٍ محاسبيٍ ملزم" بين الحكومة والمواطن، تُكتب بلغة الأرقام الحقيقية لا بلغة التصريحات، وتُدار بمنهجٍ قائمٍ على مؤشرات الأداء القابلة للقياس، حيث لا يُعتبر الإنفاق نجاحاً إلا إذا تحوّل إلى خدمةٍ أو فرصةٍ أو مشروعٍ ناجح. وعندما تصبح الرقابة المالية فعلاً يومياً لا إجراءً موسمياً، وعندما تُقاس النتائج بما تحقق على الأرض لا بما يُكتب في التقارير، عندها فقط سنرى الأرقام تعبر الجسر من الورق إلى الواقع. وسنرى الموازنة وقد تحوّلت من طقسٍ سنويٍّ متكرر إلى أداةٍ إصلاحيةٍ حقيقية تُعيد صياغة الثقة بين الدولة ومواطنيها، وتُعيد للاقتصاد الأردني توازنه واستقراره وعدالته. فالمحاسبة ليست مجرد أرقامٍ تُكتب في الجداول، بل ضميرٌ وطنيٌّ يحرس المال العام ويصون كرامة المواطن، وحين تُصبح المحاسبة سلوكاً مؤسسياً لا ترفاً إدارياً، حينها فقط يبدأ الإصلاح الحقيقي، وتتحول الموازنة من لوحةٍ معلقةٍ في هواء الوعود إلى واقعٍ وطنيٍّ صلبٍ يشهد له الجميع.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
24-11-2025 12:09 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||