20-11-2025 09:49 AM
بقلم : قدر زيد الرواشدة
في الوقت الذي تشهد فيه الدول المتقدمة قفزات نوعية في الإدارة العامة، يبرز في الأردن تحدٍّ مزمن يقف في وجه التنمية المؤسسية، ويتمثّل في البيروقراطية التي استنزفت روح المبادرة، وأبطأت وتيرة القرار، وأفقدت المواطن ثقته بالمؤسسات العامة.
أمام هذا الواقع، تبرز الحوكمة بوصفها الإطار الأكثر قوة وصرامة وقدرة على إحداث التحوّل الحقيقي. فالحديث عن الإصلاح الإداري في الأردن لم يعد يحتمل الشعارات أو المقاربات التقليدية، بل بات يحتاج إلى منظومة حوكمة تُعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومؤسساتها من جهة، وبين المواطن والخدمات العامة من جهة أخرى.
إنّ البيروقراطية في سياقها الأردني ليست مجرّد إجراءات طويلة أو معاملات متشابكة، بل هي شبكة من الممارسات الإدارية المتهالكة، التي تراكمت عبر عقود حتى أصبحت عائقًا بنيويًا يقف في وجه الابتكار، ويلجم القرار، ويُثقل كاهل المؤسسات. وهي أزمة تتجلى في بطء الإنجاز، وتضارب الصلاحيات، وغياب المساءلة، وضعف التنسيق بين الوزارات والدوائر، مما خلق فجوة واسعة بين طموح الدولة في التحديث، وأدواتها الإدارية التقليدية.
هنا تتدخل الحوكمة ليس كبديل إداري، بل كإستراتيجية إصلاحية متكاملة تُعيد بناء النظام الإداري من جذوره، وفق أسس الشفافية والمساءلة والكفاءة، ونزاهة القرار، والسياسات المبنية على البيانات.
فالانتقال من البيروقراطية المرهقة إلى منظومة حوكمة رشيدة يتطلب إعادة تعريف مفهوم السلطة داخل المؤسسة، بحيث لا تكون السلطة امتيازًا شخصيًا بقدر ما تصبح مسؤولية واضحة تحكمها أدوات قياس دقيقة، وآليات رقابة حديثة، وإطار قانوني يحد من الاجتهادات العشوائية.
وهنا تكمن قوة الحوكمة في قدرتها على تفكيك البيروقراطية من الداخل، عبر تحويل المؤسسات من كيانات تعتمد على الأفراد، إلى أنظمة تعتمد على إجراءات مؤسسية ثابتة وقابلة للقياس، مما يُنهي مزاجية القرار ويرسّخ العدالة التنظيمية داخل الجهاز الإداري.
وفي الأردن، حيث يتطلع المواطن إلى خدمة محترمة وسريعة وفاعلة، تصبح الحوكمة ضرورة وطنية وليست مجرد خيار إداري. فالإصلاح الإداري لا يكتمل إلا حين تتحول المؤسسات إلى وحدات فعّالة تعمل بمنطق الأداء لا بمنطق الروتين. وهنا يظهر دور الحوكمة في بناء ثقافة جديدة داخل القطاع العام، ثقافة تُعيد الاعتبار لمبدأ سيادة القانون، وتضع حدًا للتداخلات العشوائية في الصلاحيات، وتفرض على كل مسؤول مستوى غير مسبوق من الشفافية في اتخاذ القرار.
ولأن الأردن يسعى إلى بناء اقتصاد تنافسي، فإن البيروقراطية تظل أكبر أعداء الاستثمار والتنمية. فالمستثمر الذي يصطدم بمتاهات الإجراءات، والموظف الذي يفقد حماسه في مواجهة الروتين، والمواطن الذي ينتظر ساعات لإنجاز معاملة بسيطة ، كل هؤلاء يعيشون نتائج غياب منظومة حوكمة صارمة.
ولهذا، فإن أي مشروع إصلاحي لا يُطبق الحوكمة بصورة حقيقية ومُلزمة سيبقى مشروعًا تجميليًا لا يغيّر الواقع. فالحوكمة ليست مجرّد تعليمات تنظيمية، بل هي فلسفة في الإدارة تُحوّل المؤسسة إلى كيان ديناميكي خفيف الحركة، سريع الاستجابة، واضح المسؤوليات، يتخذ القرار وفق أدلة لا وفق المزاج.
إن الإصلاح الإداري في الأردن يحتاج اليوم إلى جرأة سياسية، وإرادة تنفيذية، وقدرة على قراءة الواقع بعيدًا عن المجاملة. فالمؤسسات العامة لا يمكن أن تُبنى بقرارات ترقيعية أو بإعادة تدوير نفس الأدوات القديمة.
بل يجب أن يدخل مبدأ الحوكمة في كل زاوية من زوايا الإدارة: من هيكلة الوظائف، إلى تصميم السياسات، إلى دور الأجهزة الرقابية، إلى آليات تقييم الأداء، وصولًا إلى تدريب الكوادر وإعادة تشكيل ثقافة العمل. وحدها الحوكمة تستطيع أن تُعيد للأردن منظومة إدارية قادرة على حماية المال العام، ومكافحة المحسوبية، وتحفيز الإبداع، وجذب الاستثمار، وترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع.
في النهاية، الحوكمة ليست مشروعًا نظريًا، بل هي المعركة الحقيقية التي يجب أن تُخاض لإنهاء البيروقراطية التي كبّلت قدرات الدولة. وهي الطريق الأكثر واقعية لبناء جهاز إداري يعمل بكفاءة الدول الحديثة. فإذا أراد الأردن مستقبلًا إداريًا يتناسب مع طموحاته الوطنية، فلا بد أن يُعلن المواجهة الحاسمة مع البيروقراطية، ويضع الحوكمة في قلب مشروع الإصلاح، بوصفها حجر الأساس لنهضة مؤسسية شاملة تعيد للدولة هيبتها، وللمواطن ثقته، وللمؤسسات قدرتها على الإنجاز.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
20-11-2025 09:49 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||