18-11-2025 10:16 AM
بقلم : د.عاصم منصور
لم أستطع مقاومة العنوان لأبدأ بقراءة الرواية التي شدتني حتى النهاية، فأنا لا أستطيع مقاومة قراءة ومشاهدة كل ما يتعلق بروسيا البلد الذي عشت فيه وأحببته.
في “جنتلمان من موسكو” يختار أمور تاولز أن يطوي روسيا النصف الأول من القرن العشرين داخل جدران فندق واحد، حيث يعيد تشكيل العالم في فندق المتروبول الفاخر، في بهوه وغرفه وممراته ومطعمه، ليحوّل مساحة محدودة إلى عالم كامل تُرى من خلاله تحولات التاريخ وأحوال الإنسان معًا. هكذا يبدأ حكم الكونت ألكسندر روستوف بالمكوث الإجباري في هذا الفندق، لكن حكمًا بالسجن مدى الحياة يتحول تدريجيًا إلى مختبر لفنّ العيش داخل القيود.
روستوف، الأرستقراطي الذي تربّى على الذوق والانضباط، لا يختار تقمص دور البطولة الصاخبة، وبدلًا من ذلك، يقرّر أن يحافظ على أسلوبه، حتى وهو ينتقل من جناحه الفخم إلى غرفة صغيرة أشبه بالمخزن. فالتفاصيل الصغيرة التي كان يمكن أن تبدو عابرة، مثل ترتيب مقعد، أو توقيت فنجان القهوة، أو حتى أسلوب ونبرة الحديث تصبح جوهرية، بل تتحول إلى وسائل مقاومة تحول دون الانكسار، وكأن الرواية تقول إن الخيارات الصغيرة يمكن أن تتحول إلى معيار أخلاقي، وأن الذائقة هنا ليست ترفًا، بل أداة بقاء وطريقة لتثبيت ملامح الذات في وجه عالم يصرّ على تسييل الفروق الفردية.
على امتداد العقود التي تغطيها الرواية، تظلّ السياسة حاضرة كظلٍ بارد لا يغادر الخلفية، عبر أنظمة تتغير، وحروب تتأجج، ومعسكرات عمل، ووجوه جديدة للسلطة، لكن المتروبول نفسه، بعاداته وطقوسه ورواده، يشكّل عالمًا موازيًا، يُعاد داخله تعريف الزمان والمكان. فالوجوه تتبدل، والعلاقات تنمو لكن في في صمت، فالسجن الخارجي لا يمنع الشخصية من إعادة ترتيب الداخل من خلال ابتكار روتين يومي، وتحويل المساحة المحدودة إلى مسرح مكتمل للحياة.
في قلب هذا المسرح تتكوّن شبكة علاقات تمنح الرواية نبضها الإنساني، طفلة تكبر تحت عينَي الكونت فيصير أبًا من نوع خاص، ووجوه من العاملين في الفندق، من خياطين، وطهاة، ونُدُل، وحرس أبواب يتدرجون من هامش الحكاية إلى مركزها، وأصدقاء قدامى وزائرون عابرون يتحولون بالتدريج إلى دائرة حميمية تحيط بالبطل. هؤلاء الذين يُفترض أن يكونوا “خلفية” المشهد يغدون، عبر الزمن، حائطه الساند. وما ينقذ روستوف من أن يتحول إلى “شبح أرستقراطي” ليس ماضيه ولا لقبه، بل هذه الروابط اليومية التي يحافظ عليها ويستثمر فيها بالصبر واللطف والوفاء.
في العمق، تقدّم الرواية درسًا هادئًا في الحرية الداخلية بوصفها مهارة تُكتسب بالممارسة، فعندما ينهض روستوف كل صباح ليعيد ترتيب يوم لا يختلف كثيرًا عن سابقيه، فهو لا يهرب من قدره، بل يكتب تعريفًا جديدًا للكرامة، في أن تختار أسلوبك حين لا يمكنك اختيار مصيرك.
لهذا لا تبدو “جنتلمان من موسكو” رواية عن السجن بقدر ما هي رواية عن كيفية العيش داخل السجن دون الاستسلام لمعناه. انتصاراتها ليست شعارات كبيرة، بل مشاهد قابلة للتكرار: فنجان قهوة مضبوط، مائدة أصدقاء، مقطوعة موسيقية تتكرر حتى تصبح جزءًا من هوية المكان، أبوة تُمارَس بصمت، التزام بآداب المائدة بينما تنهار آداب العالم خارج النوافذ. لمن لم يقرأ الرواية بعد، ألخص الفكرة المركزية للرواية دون كشف للتفاصيل: يمكنك أن تجد نفسك محكومًا بمتروبولك الخاص، غرفتك، عملك، مدينتك، ظرفك الشخصي ومع ذلك يمكنك أن تخرج منه أكثر رهافة ونضجًا، لا لأن الجدران تعمل على تغييرك، بل لأنك قررت ألا تستقيل من ذائقتك وأسلوبك، ففي زمنٍ يعلو فيه الضجيج، تبدو هذه الأناقة الداخلية واحدة من أصدق أشكال المقاومة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-11-2025 10:16 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||