09-11-2025 10:30 AM
بقلم : سعيد ذياب سليم
ما الذي يخفيه المظهر؟
يَجذِبُنا القَمَرُ كلَّ لَيلة؛ تُعانِقُهُ نَظَراتُنا وَتَتبَعُهُ أَيْنَما دار. يُبَدِّلُ زِيَّهُ النورانيَّ في كُلِّ مَرَّة، فَيَبدو كَأَنَّهُ شَخصِيَّةٌ أُخرى غَيرُ التي رَأَيناهُ بِها بِالأَمس. لَيلةً يُطِلُّ مُكتَمِلاً، كَوَجهِ فَتاةٍ في السَّابِعَةَ عَشرَةَ مِن عُمرِها، جَريئَةٍ شَقِيَّةٍ تََلعَبُ بِعَواطِفِ البَشَر، وتارَةً يَبدو كَطِفلٍ مُتَرَدِّدِ الخُطُواتِ يَسيرُ عَلى شاطِئِ اللَّيلِ بِخُطىً حَذِرَة. وَبَينَهُما يَكتَسِبُ وَجهًا مُختَلِفًا كُلَّ مَساء؛ تارَةً يَدعونا إِلَى الرَّقصِ مَعَهُ، وَتارَةً يَجلِسُ خَجولًا يَحلُمُ بِالغَد.
أقنعة النساء
كَذلِكَ المَرأَةُ، تَسيرُ وَفقَ القاعِدَةِ نَفسِها: فُستانٌ مُختَلِفٌ، امرَأَةٌ مُختَلِفَة! فَفي المِرآةِ تَتَجَلَّى أَناقَتُها كَما تَتَجَلَّى الثَّقافاتُ في أَلوانِها وَتَفاصيلِها.
المَرأَةُ التَّقليديَّةُ تَختارُ ثَوبَها كَما تَختارُ كَلِماتِها؛ تَحفَظُ لِلَّونِ وَقارَهُ، وَتَدَعُ العِطرَ هَمسًا لا إِعلانًا، كَأَنَّها تَخافُ أَن يَشيَ بِها النَّسيم. شَعرُها يَنسَدِلُ في بَيتِها بِخَجَل، ثُمَّ يُلَمُّ في العَمَلِ كَسِرٍّ لا يُفصَحُ عَنه، وَفي السَّهرَةِ تَكتَفي بِبَريقٍ خَفيفٍ يُذَكِّرُ بِالحُضورِ لا بِالإِغواء، كَأَنَّها تُمارِسُ الأَناقَةَ بِروحٍ مِن الحَياء. هذا النَّمَطُ مِنَ الحَياةِ يَعكِسُ اِنسِجامًا داخِليًا وَثِقَةً بِالنَّفسِ، كَما تَجِدُ أَنماطًا أُخرى تُواِزنُ بَينَ الحُرِّيَّةِ وَالمَسؤولِيَّةِ عَلى نَحوٍ مُختَلِف.
لكنَّ العالمَ تغيَّر، ومعه تغيَّرت مرايا النساء.
المَرأَةُ العَصرِيَّةُ تَلبَسُ فِكرَها قَبلَ فُستانِها. لا تَخشى اللَّونَ الصَّارِخَ إِذا عَبَّرَ عَنها، وَلا تُساوِمُ عَلى عِطرٍ يُشبِهُ حُرِّيَّتَها. شَعرُها مِساحَةُ تَجريبٍ تُغَيِّرُهُ كَما تُغَيِّرُ فُصولَها؛ تَسريحَةٌ لِلعَمَلِ، واِنطِلاقٌ في المَساء. وَفي بَيتِها لا تَتَجَمَّلُ لِتُرى، بَل لِتَشعُرَ بِأَنَّها ما زالَت حَيَّةً تَحتَ ضَوءِ المِرآة. هذِهِ المَرأَةُ رَسَمَت مَسيرَتَها بِمهارَةٍ، فَرَضَت نَفسَها في المَشهَدِ الذُّكوريِّ، وَاِختارَت أَسلِحَتَها بِعِنايَة.
أَمَّا المُتَمَرِّدَةُ، فَتَقلِبُ المُعادَلَةَ كُلَّها؛ لا تَلبَسُ لِتُرضي، بَل لِتَقول. أَلوانُها حادَّةٌ، عِطرُها يَسبِقُها كَبَيانٍ ضِدَّ الرَّتابَة، وَشَعرُها إِعلانٌ عَن فَوضَى الدَّاخِلِ وَجَمالِهِ. في العَمَلِ تُربِكُ المَعاييرَ، وَفي السَّهرَةِ تُشعِلُ الضَّوءَ مِن داخِلِها لا مِن فُستانِها. آراؤُها ثَورَةٌ، وَمُيولُها خارِجَ المُعتادِ، جَريئَةٌ في الحُبِّ كَما في الحَرب. وَهَكَذا تُفصِحُ كُلُّ امرَأَةٍ عَن ثَقافَتِها بِطَريقَتِها؛ فَالثَّوبُ لَيسَ قُماشًا فَحَسبُ، بَل نَصٌّ اِجتِماعيٌّ تُكتَبُ عَلَيهِ هُوِيَّةُ مَن تَختارُهُ.
المسرح الاجتماعي والأقنعة الرمزية
وَلا تَظُنَّ — عَزيزي القارِئُ — أَنَّني أَتَحامَلُ عَلَى المَرأَةِ؛ فالرَّجُلُ كذلِكَ يختارُ مَظهَرَهُ بِعِنايَة، ويَرتَدي ما يُناسِبُ الدَّورَ الَّذي يُؤَدّيهِ في الحَياة.
فنحنُ جَميعًا، كما أشارَ إرفنغ غوفمان في كتابه "تقديم الذات في الحياة اليومية"، نَرى أنَّ الحَياةَ اليَومِيَّةَ تُشبِهُ عَرضًا مَسرَحِيًّا هائِلًا، يُؤَدّي فيهِ كُلٌّ مِنَّا دَورًا عَلى خَشبَتِهِ. فَنَحنُ لا نَعيشُ كَما نَحنُ، بَل نُقَدِّمُ أَنفُسَنا كَما نُحِبُّ أَن يَرانا الآخَرونَ؛ نَختارُ المَظهَرَ، وَنَضبُطُ الإيماءَةَ، وَنَنتَقي الكَلِماتِ كَما يَنتَقي المُمَثِّلُ أَدَواتِهِ في المَشهَد.
يَقولُ غوفمانُ إِنَّنا نَرتَدي أَقنِعةً رَمزِيَّةً ــ قِناعُ المُجامَلَةِ، أَو خُوذَةُ المُقاتِلِ، أَو وَجهُ الطِّفلِ البَريءِ ــ نَستَخدِمُها لِقِيادَةِ ذَواتِنا في تَفاعُلاتِنا اليَومِيَّة، سَعيًا لِتَحقيقِ غايَةٍ، أَو دَرءِ خَطَرٍ، أَو رَغبَةٍ في بُطولَةٍ صَغيرَةٍ تَمنَحُنا شُعورًا بِالجَدارَة. بِهذا المَعنَى، تُصبِحُ العَلاقاتُ الاِجتِماعِيَّةُ خَشبَةً نَتَحَرَّكُ عَلَيها جَميعًا، نُحاوِلُ عَبرَها أَن نَترُكَ اِنطِباعًا يَنسَجِمُ مَعَ الصُّورَةِ الَّتي رَسَمناها لِأَنفُسِنا. فَما نُسَمِّيهِ "الواقِعَ الاِجتِماعيَّ" لَيسَ سِوَى سِلسلَةٍ مِن العُروضِ المُتَبادَلَةِ، يَتَبَدَّلُ فيها القِناعُ بِتَبَدُّلِ الجُمهورِ وَالمَكانِ وَالمَوقِف.
المظهر كلغة وصورة
وَمَعَ ذلِكَ، فَإِنَّ هذا "التَّمثيلَ" لا يَعني الزَّيفَ بِالضَّرورَة، بَل هُوَ الوَجهُ الإِنسانيُّ لِلتَّفاعُلِ ــ الوَجهُ الَّذي نُعَبِّرُ بِهِ عَن حاجَتِنا إِلَى القُبولِ، وَإِلَى أَن يُرى فينا ما نَوَدُّ أَن يَكونَ حَقيقَتَنا. المَظهَرُ إِذَن، لَيسَ شَكلًا فَحَسبُ، بَل لُغَةٌ نَفسِيَّةٌ وَاِجتِماعِيَّةٌ، يَتَجَلَّى فيها ما نُخفيهِ أَكثَرُ مِمَّا نُظهِرُه.
في حَفَلاتِ المِيلادِ نَرتَدي القُبَّعاتِ المُلوَّنَةَ، لا نَعلَمُ أَنُعلِنُ بِها الفَرَحَ أَم نُخفي بِها اِنكِسارَنا، وَفي الحَفَلاتِ التَّنَكُّرِيَّةِ نَلبَسُ الأَقنِعةَ المُرعِبةَ، كَأَنَّنا نُجَرِّبُ التَّحَرُّرَ مِن ذَواتِنا أَو نُعَبِّرُ عَن خَوفٍ مَكتوم.
وَقَد اِلتَقَطَ الأَدَبُ هذِهِ الرَّمزِيَّةَ مُبَكِّرًا، فَصَوَّرَ المَظهَرَ كَسِتارٍ لِلحَقيقَةِ، كَما في قِصَّةِ «مَلابِسِ الإِمبراطورِ الجَديدَةِ» لِـهانس كريستيان أندَرسَن، حينَ خَدَعَ النَّصّابُ الإِمبراطورَ وَأَوهَمَهُ أَنَّهُ أَلبَسَهُ ثَوبًا سِحرِيًّا لا يَراهُ إِلَّا الأَذكِياءُ، فَسارَ بينَ النَّاسِ عارِيًا إِلَّا مِن غُرورِهِ، حَتَّى صاحَ طِفلٌ صَغير: "لَكِنَّ الإِمبراطورَ لا يَلبَسُ شَيئًا!"، فاِنكشَفَ المَشهَدُ وَسَقَطَ القِناعُ عَن نُخبَةٍ تُمارِسُ الوَهمَ وَتَخافُ الحَقيقَة.
وَكَذلِكَ في الفَنِّ، نَرَى المَظهَرَ يَتَحَوَّلُ إِلَى رَمزٍ لِلجَمالِ وَالدَّهشَةِ؛ في أُغنِيَةِ “Lady in Red” "السيدة بالأحمر" لِـكريس دي بيرغ، يَصِفُ لَحظَةً تَمتَزِجُ فيها الأُنثَى بِاللَّونِ، حينَ تَدخُلُ مُرتَدِيَةً فُستانَها الأَحمَرَ، كَأَنَّها تُضيءُ المَكانَ بِشَغَفٍ لا يُحتَمَل. أَمَّا نِزارُ قَبَّاني فَقَد صَوَّرَها وَهيَ تَرقُصُ بِثَوبِها الَّذي أَهمَلَتهُ طَويلًا، قائِلًا:
"حَتَّى فَساتيني الَّتي أَهمَلتُها... فَرِحَتْ بِهِ، رَقَصَتْ... عَلى قَدَمَيهِ"
فَهيَ لا تَرتَدي ثَوبًا فَحَسبُ، بَل روحًا تَهتَزُّ بِلَونِ الحُبِّ وَالمُفاجَأَةِ، كَأَنَّها تَحتَفِلُ بِالحَياةِ ذاتِها، لا بِالرَّجُلِ وَحدَه.
وَفي المُقابِلِ، يَقفُ الرَّجُلُ بَينَ الرَّسميِّ وَالعَصرِيِّ، يَرتَدي قِناعَهُ اليَوميَّ بِثِقَةٍ وَاِعتِدال، يَتَنَقَّلُ بَينَ الرَّصانَةِ وَالحُرِّيَّةِ، تَمامًا كَما يَتَبَدَّلُ دَورُهُ في مَسرَحِ الحَياة. فَاللِّباسُ عِندَهُ لَيسَ مُجَرَّدَ مَظهَرٍ، بَل وَعْيٌ بِاللَّحظَةِ وَاِحتِفالٌ بِها؛ فَهُوَ لا يَلبَسُ لِيُرى، بَل لِيُقنِع، كَما الطَّبيبُ الَّذي يَلبَسُ الأَبيَضَ لِيَمنَحَ الثِّقَةَ، وَالواعِظُ الَّذي يَرتَديهِ رَمزًا لِلطُّهرِ، وَكَأَنَّ الأَلوانَ ذاتَها صارَت حُجَّةً عَلَى النِّيَّةِ، وَشاهِدَةً عَلَى الجَوهَر.
خاتمة
وَهَكَذا، بَينَ الضَّوءِ وَالعَتمَةِ، بَينَ المَظهَرِ وَالحَقيقَةِ، نَقِفُ جَميعًا أَمامَ مِرآةٍ واحِدَةٍ نَبحَثُ فيها عَن صُورَةٍ تُرضينا وَتُقنِعُ الآخَرينَ بِنا. فَـما المَلبَسُ إِلَّا اِمتِدادٌ لِلنَّفسِ، وَما القِناعُ إِلَّا وَجهٌ آخَرُ لِلحَقيقَة. وَلَنا في القَمَرِ زَهوَةٌ وَدَليل؛ يُبَدِّلُ وَجهَهُ كُلَّ لَيلة، وَلا يَكُفُّ مَعَ ذلِكَ عَن الإِضاءَة.
سعيد ذياب سليم
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
09-11-2025 10:30 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||