28-10-2025 10:35 AM
بقلم : د. محمود الحبيس
لم تكن الخدمة المدنية في الأردن يوماً مجرّد نظامٍ إداريٍ يضبط علاقة الموظف بالدولة، بل كانت روحاً وطنية نابضة بالانتماء والعطاء والمسؤولية. كانت الإدارة العامة مرآةً لهيبة الدولة، وميداناً تتجلى فيه الكفاءة والنزاهة والجدارة.
غير أن ما حمله النظام الجديد للخدمة المدنية لم يكن إصلاحاً بالمعنى الذي انتظرناه، بل زلزالاً إدارياً أربك المؤسسات وأحبط الموظفين، حتى غدا الإصلاح عنواناً على الورق، فيما الميدان يعيش انهياراً صامتاً لا يُخطئه من له عين بصيرة.
من فلسفة الخدمة إلى منطق السلعة تاهت الإدارة حين انسلخت عن روحها، وفقدت معناها الإنساني عندما تحولت من منظومةٍ تُعنى بخدمة الإنسان إلى معادلةٍ جامدة تُقاس بالأرقام والدرجات، وكأن الإنسان مجرد بندٍ في جدولٍ مالي لا روح فيه ولا قيمة.
هل سمعتم بدولةٍ في العالم تُسعِّر الوظيفة كما تُسعَّر السلع؟ وهل يدرك واضعو نظام الخدمة أن "تسعير الوظيفة" في جوهره يقوم على نوع العمل، ومستوى الخبرات، وطبيعة المؤهلات، لا على مبدأ التسعيرة الموحدة التي تساوي بين المختلفين وتلغي التميز؟
حتى الدولة العثمانية، بكل ما شهدته من نظمٍ إدارية صارمة، لم تنحدر إلى هذا المستوى من "تسليع الوظيفة"، لأنهم كانوا يدركون أن الوظيفة خدمةٌ تؤدى بشرف، لا سلعةٌ تُباع وتُشترى.
الإدارة ليست سلعة! حين يُعامل الموظف كرقمٍ في جدول أو بندٍ في موازنة، يُطفأ في داخله شغف العطاء، وتفقد الوظيفة العامة رسالتها النبيلة لتتحول إلى عبءٍ يوميٍ لا روح فيه. لقد كان الأجدر بالنظام الجديد أن يُعيد للموظف مكانته كمحرّكٍ للتنمية لا أن ينزعه من إنسانيته في مشهدٍ بيروقراطيٍ مزيّنٍ بشعارات الإصلاح.
إصلاح أم فوضى منظمة؟ تحت لافتة “التحديث”، جاء النظام الجديد محمّلاً بتفاصيل تُغرق المؤسسات في روتينٍ متجدد. إعلانٌ واحد لوظيفةٍ شاغرة كفيلٌ بأن يُطلق سباقاً من الطلبات والامتحانات والمقابلات بين المؤسسة وهيئة الخدمة المدنية، في عمليةٍ مرهقةٍ تُهدر الوقت والجهد وتضاعف الأعباء الإدارية.
فأيُّ تحديثٍ هذا الذي يُثقِل الإدارة بدل أن يُبسّطها؟ أليس الأجدر أن يكون الإصلاح بوابة للتيسير لا متاهة من الإجراءات المتكرّرة؟..انه تضيع لجهود المؤسسات وانشغالها لتعين شاغر ان يتقدم له المئات ومن اجراءات الفرز والعمليات التي تستغرق شهورا .وهكذا يتحول البقية الى اعلانات اخرى لنفس الوظيفة ..اليس هذا تشتيت للمواطنين.
ثم جاءت الرواتب لتتحول إلى تسعيرةٍ جامدةٍ لا تُفرّق بين الخبير والمبتدئ، ولا تُكافئ أصحاب الكفاءة والمؤهلات العليا. بهذا الشكل، أصبح القطاع العام محطة عبورٍ مؤقتة يكتسب فيها الموظف الخبرة ثم يغادر نحو القطاع الخاص بحثاً عن التقدير المادي والمعنوي. وهكذا، تفقد الدولة خبراتها، ويُصاب الجهاز الإداري بالهشاشة، في معادلةٍ ظالمة لا تُنصف أحداً.
أما التحفيز فغائب، والتقييم ظالم، والترقيات جوازية. نظام التقييم الجديد الذي قيد التميز بنسبٍ محددة، حرم المبدعين من التقدير، وأحبط المجتهدين من نيل حقهم المشروع.
أيُّ عدالةٍ تلك التي تحرم موظفاً من التميز لأن حصة "الممتاز" قد امتلأت؟!!
هكذا تُطفأ أنوار الطموح في دواوين الدولة، ويتحول العمل العام إلى روتينٍ ثقيلٍ بلا معنى ولا إلهام.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الدولة عن تمكين القيادات، جاء النظام ليسحب من الأمناء العامين أدواتهم وصلاحياتهم. فكيف يُحاسب قائد إداري على نتائج لا يملك مفاتيح صنعها؟
إن هذا التناقض يُفرغ التمكين من مضمونه، ويعيدنا إلى مركزيةٍ خانقةٍ تُعيق الكفاءة وتبطئ الإنجاز.
حتى النقل بين المؤسسات أصبح معركة أوراقٍ وتقارير لا تنتهي، وتعيين مديرٍ أو رئيس قسم يحتاج لاستقالةٍ ثم إعادة تعيين!
أليس الهدف من الإصلاح أن يُيسّر الإدارة لا أن يُقيدها بقيودٍ جديدة؟
دولة الرئيس،
أقولها بصدقٍ وألم: لم نكن ننتظر من الإصلاح أن يُربك الميدان أو يُحبط العاملين فيه. كنا نحلم بنظامٍ يُعيد للوظيفة العامة هيبتها، وللكفاءة مكانتها، وللموظف كرامته ودافعيته.
لكن ما نراه اليوم يستدعي وقفة مراجعةٍ شجاعة وقراراً وطنياً حكيماً.
بل إن الخلل طال حتى التسميات؛ فكيف تكون لدينا “هيئة للخدمة والإدارة العامة”، وفي الوقت ذاته “معهد للإدارة العامة”؟ حتى في الأسماء تبدو الإشكالية قائمة.
إن الدعوة إلى إعادة التوازن لم تعد مطلباً فكرياً بل ضرورة وطنية ووظيفية. المطلوب ليس الهدم بل إعادة البناء على أسسٍ عادلة ومنصفة.
ولذلك فإن تشكيل لجنة وطنية تضم خبراء وممارسين من الميدان أصبح أمراً ملحّاً لا ترفاً.
لجنة تُجري مقارنةً علمية دقيقة بين النظام القديم والجديد، للخروج بتصورٍ وطنيٍ يوازن بين العدالة والكفاءة، ويحفظ للموظف مكانته كعنصر بناء لا كرقمٍ في معادلة جامدة.
ولعل من روائع المصادفات أن تتولى معالي وزيرة تطوير القطاع العام – التي كانت أميناً عاماً لديوان الخدمة المدنية – مسؤولية الإصلاح الإداري، وأن يشغل عطوفة رئيس هيئة الخدمة والإدارة العامة – الذي كان مستشاراً لرئيس الديوان – موقعاً يمكّنه من استشراف مكامن الخلل في تعديلات نظام الخدمة المدنية. فكلاهما يدرك بعمق مواطن الضعف وأوجه القصور، وهما الأقدر على إعداد تقرير مهني رصين يقارن تلك الثغرات ويقترح سبل معالجتها.
ولتعزيز المصداقية والشفافية، أقترح دعوة مديري الموارد البشرية في المؤسسات الحكومية لاجتماعٍ، تُستمع فيه آراؤهم بحرية تامة دون أي توجيهات مسبقة، ليكون صوت الميدان هو البوصلة، وتكون الحقيقة هي النتيجة.
أمام ما أفرزه النظام الحالي من نتائج لا تُعبّر عن جوهر العدالة ولا عن معيار الكفاءة الحقيقية، أرى أن الوقت قد حان لمراجعة شاملة تعيد البوصلة إلى مسارها الصحيح.
إن العودة إلى نظام التعيين عبر ديوان الخدمة المدنية تمثل خطوة إصلاحية ضرورية، شريطة أن يُعاد تصميم آلياته بما يوازن بين أصحاب طلبات التوظيف المتراكمة في المخزون وبين الخريجين الجدد الباحثين عن فرصة عادلة.
ويُقترح أن يُبنى نظام التقييم على مؤشرات واضحة وموضوعية تشمل العلامات المخصصة للمؤهلات الأكاديمية، والخبرات العملية، والتقدير العام للمؤهل، على أن يُضاف إلى ذلك امتحان تنافسي يمنح مثلاً من (20) علامة، دون النظر إلى الرقم بقدر ما يُنظر إلى أدائه كمؤشر للكفاءة والاستحقاق.إن مثل هذا الامتحان، متى ما وُضع على أسس علمية ومهنية، سيكون كفيلاً باكتشاف الطاقات الحقيقية وتمييز أصحاب الجدارة من بين الطامحين، ليعود التوظيف إلى غايته النبيلة: اختيار الأكفأ لخدمة الوطن.
دولة الرئيس،
إن الإصلاح الذي ينشده جلالة الملك عبدالله الثاني وسمو ولي العهد، حفظهما الله، لا يُقاس بعدد البنود في النظام، بل بمدى انعكاسه على أداء الإدارة وثقة المواطن بعدالتها.
فلنُعد للخدمة المدنية روحها، وللموظف كرامته، وللدولة هيبتها.
فالدولة التي تُكرّم موظفيها تُكرّم نفسها، والإدارة التي تضع الإنسان في قلبها تصنع مستقبلها.
ومن أراد إصلاحاً حقيقياً، فليبدأ من الإنسان لا من النص، ومن الفكرة لا من النموذج.
وحينها فقط سنقول بثقة: أصلحنا النظام... ولم نُفسده باسم الإصلاح.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
28-10-2025 10:35 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||