حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,24 أكتوبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4588

الزعبي يكتب: حكومة عالمية واحدة .. حلم البشرية أم كابوس الخوارزميات؟

الزعبي يكتب: حكومة عالمية واحدة .. حلم البشرية أم كابوس الخوارزميات؟

 الزعبي يكتب: حكومة عالمية واحدة ..  حلم البشرية أم كابوس الخوارزميات؟

22-10-2025 09:05 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.عبدالله سرور الزعبي
في التاريخ الطويل لبناء الدول، كانت القوة تُقاس بالمساحة، وعدد الجنود وثراء الخزائن. غير أن العصر الرقمي قلب المعادلة، فالقوة اليوم لا تُقاس بما تملك من الحديد والنفط، بل بما تمتلك من بيانات ومعرفة وقدرة على إدارة المعلومة. ومن هنا، يصبح التحول الرقمي في الإدارة والحكم ليس ترفًا تقنيًا، بل ضرورة وجودية للدول التي تريد البقاء في نادي المستقبل.

منذ فجر التاريخ، حلم الإنسان بنظام يوحّد البشر فوق القوميات والأديان، ويضمن العدالة والسلام. لقد رافقت الفكرة، البشرية منذ أن تخيّل الملوك والفلاسفة أنهم قادرون على حكم العالم بالعقل أو بالقوة، او بكلاهما.
بدأت المحاولة الأولى مع الإمبراطوريات القديمة، فالإسكندر المقدوني حلم بدمج الشرق بالغرب، وروما أرادت السلام بالسيف، فمدّت طرقها من بريطانيا إلى الصحراء العربية، ونشرت قانونها على الشعوب. غير أنها سقطت عندما تحوّلت فيها الفضيلة إلى ترف، والمواطنة إلى امتياز، كما قال المؤرخ إدوارد غيبون “سقطت روما حين نسيت أن الفضيلة كانت سبب عظمتها”.
في المقابل، أسست فارس نموذجًا إداريًا متقدمًا، جمع بين المركزية والتنوّع، وابتكرت نظام الولايات، وبنت حضارة مذهلة. لكنها انهارت حين غرقت بالترف والجمود وتحولت السلطة إلى غاية لا وسيلة.
ثم جاء الإسلام وحمل فكرة التوحيد بالعقيدة، لا بالقهر، فامتدت الخلافة من الصين إلى الأندلس، تجمع العربي والفارسي والرومي والهندي، وأصبحت بغداد مركزًا للعلم والعقل، وبدت البشرية حينها قريبة من نموذجٍ كونيٍ متوازن. غير أن الصراعات السياسية والعصبيات، أفقدت الفكرة جوهرها الحضاري، فانهار النموذج على يد المغول القادمين من الشرق كإعصار، أعادوا فيه تشكيل الجغرافيا، وربطوا الشرق بالغرب في أول شبكة اقتصادية وثقافية عالمية عبر طريق واحد، عملة واحدة، ورسائل تنتقل في أيام بدل من الشهور.
توارث العثمانيون فكرة الدولة الجامعة، وحققوا توازنًا بين الدين والسياسة. لكنهم وقعوا في فخ الجمود، فانهارت الدولة كما تنبأ ابن خلدون “الدولة في بدايتها تقوم بالعصبية، وفي نهايتها تنهار بالترف”.
لقد اثبتت التجارب التاريخية، أن السلطة تسقط حين تنسى أن العدل والضمير هما عماد القوة. وهو ما عبر عنه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، قائلاً، الإمبراطوريات لا تُقتل، بل تنتحر، بسبب الترف، والفساد، وانفصال القيادة عن الشعوب، وتآكل القيم التي قامت عليها الحضارة نفسها.
الفكرة لم تمت، بعد الثورة الفرنسية ظهرت مشاريع التوحيد عبر الاستعمار. فحكمت بريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ورفعت فرنسا شعار التنوير، فيما سعت ألمانيا إلى ألف عام من السيادة، حتى احترق العالم في حربين عالميتين أظهرتا عجز القوة عن خلق النظام. فكانت عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة أولى محاولات التوحيد بالعقل، وبقيت الإرادة ناقصة، وأسيرة إرادة القوى الكبرى.
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت إمبراطورية ناعمة، قادتها الولايات المتحدة عبر الدولار والإعلام والتكنولوجيا، بينما واجهها الاتحاد السوفييتي بأيديولوجيا مضادة، فكانت الحرب الباردة. حين سقط الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدا وكأن العالم فقد توازنه، لتولد إمبراطورية غير مرئية، إمبراطورية السوق والتكنولوجيا.
منذ ذلك الحين، تحوّلت البشرية تدريجياً من حكم الدول إلى حكم الشبكات الرقمية. وهو ما تحدث عنه فوكو، قائلاً “السلطة الحقيقية ليست مرئية، بل تُمارس عبر المعرفة”.
الامبراطورية الناشئة، لا عاصمة لها، وتتحكم بالسلوك والاقتصاد والوعي، وتعرف عن الإنسان أكثر مما يعرف عن نفسه، حتى باتت التكنولوجيا، أقرب إلى أن تكون دينًا جديدًا، تُعبد فيها الخوارزميات وتُقاس فيه القيم بالأرقام، وتُدير العالم من خلف الستار، واعادت إنتاج الاستعمار بأدواتٍ ناعمة. كما قال تشومسكي “العالم أصبح موحّداً اقتصاديًا، ومنقسم إنسانيًا”. غير أنّ الوحدة الكترونيةً، تخفي خلف الشاشات فوضى أخلاقية، وهيمنة رقمية تفوق في خطرها أي استعمارٍ مادي عرفه التاريخ.
اليوم، حيث تتجسد أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على اتخاذ القرار بدل الإنسان، وتفتح صفحة جديدة من التوحيد. الا ان هذا التوحيد، يظهر عدد من الاسئلة، الوجودية، هل نحن نتجه فعلًا نحو وحدةٍ كونية؟ وهل سيكون الحكم للخوارزميات؟ أم أننا نعيش مقدمات حربٍ كونية ثالثة تعيدنا إلى زمن العصي والحجارة كما تنبّأ أينشتاين، عندما قال “لا أعلم بأي سلاح ستُخاض الحرب العالمية الثالثة، لكن الرابعة ستُخاض بالعصي والحجارة”، وكما حذر ستيفن هوكينغ من أن “الذكاء الاصطناعي قد يكون أعظم إنجاز في تاريخ البشرية، أو آخر إنجاز لها”.
التاريخ يعيد نفسه بأدوات جديدة، من السيف إلى الخوارزمية، ومن الإمبراطور إلى الذكاء الاصطناعي، الإنسان الذي حلم بالحكم بالعقل، ويكون قد صنع عقلًا يحكمه، يكون فيه القرار صادرًا من آلةٍ لا روح لها.
وهنا تتجلى الفلسفة الوجودية، هل يمكن ان ينجو الانسان وتنجو الدول؟، الجواب، نعم في حالة إقامة عقد إنساني جديد (العقد الإنساني الرقمي)، ويقوم على أربعة مبادئ، السيادة الأخلاقية، والشفافية الرقمية، والعدالة التقنية، والكرامة الإنسانية، ولكيلا يتحول الإنسان إلى مجرد رقم. بدون هذه المبادئ، ستتحقق نبوءة أينشتاين، فتفقد فيها الحضارة قدرتها على ضبط أدواتها. هذا العقد ليس رفاهية، بل شرط بقاء، فكما قال أينشتاين “المشكلة ليست في الذكاء الذي نملكه، بل في الحكمة التي نفتقدها”.
ان السيناريوهات المنتظرة للمستقبل، يمكن تصورها في ثلاثة احتمالات. الأول، حكومة الذكاء الاصطناعي ذات الكفاءة العالية والعدالة الإجرائية الباردة. الثاني، اتحادٌ كوني يوازن بين التقنية والقيم، حيث يتحكم البشر بالخوارزميات ضمن ضوابط أخلاقية. الثالث، انهيارٌ شامل يقود إلى حربٍ نووية ورقمية، يعيد الإنسان إلى بداياته.
لكن يبدو ان العالم، يعود إلى فوضى الأقطاب، وصعود الصين وروسيا، وتفكك الغرب، وتوتر الشرق الأوسط ووسط اسيا، وانفجار سباق الذكاء الاصطناعي.
إذا افترضنا أن حربًا كبرى أو انهيارًا تكنولوجيًا سيحدث، فإن المعرفة ستتحول إلى أسطورة، كما حدث بعد سقوط روما، ودخول أوروبا عصورها المظلمة، وستعيد الدائرة من جديد، من النار إلى النار؟
لكن الأمل يبقى في قدرة الإنسان على التعلّم من تاريخه، والعودة الى تحالفٍ العقل والضمير، ضمن منظومة قائمة على القيم الرقمية، وتحكمها الشفافية (الوعي الجمعي الرقمي) لا المؤامرات.
هذه الفكرة، قد تُطرح اليوم في سياقين متناقضين، الأول مثالي، يرى فيها ضمانًا للسلام والمساواة ومواجهة الأزمات المناخية والاقتصادية العالمية، والثاني تشاؤمي، يرى فيها مدخلًا للتحكم الشامل، حيث تُدار البشرية كملف بيانات واحد، وتفقد فيه انسانيتها.
معركة العالم الكبرى، اليوم هي بين الإنسان وظله، فالعالم امام خيارين، إما أن يُعيد تعريف نفسه، فينجو، أو أن يكرر مأساة برج بابل، حين أراد الإنسان أن يبني صرحه إلى السماء فسقط تحت ثقل طموحه.
في خضمّ هذا التحول، يقف الأردن أمام تحدٍ استثنائي بين مواكبة الثورة الرقمية، من خلال التحول الرقمي، والتوسّع في الاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والتعليم التكنولوجي، وامن وحماية سيادته من الحكومة العالمية غير المرئية.
لكنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في البنية التحتية، بل في حماية الوعي الوطني والسيادة الرقمية من التبعية للمنصات التي تحتكر البيانات. ولذلك، فإنّ تحصين المجتمع الأردني من الاستعمار الرقمي، يتطلب بناء مجامع رقمية وطنية، تُعنى بحوكمة البيانات، وتكريس الثقافة الرقمية الأخلاقية، بحيث تبقى الخوارزميات في خدمة الإنسان الاردني لا العكس.
ولعل ما يميز التجربة الأردنية هو، الإدراك الكبير للملك، وولي العهد، من أن التحول الرقمي ليس مجرد برمجيات، بل ثقافة جديدة لمستقبل الدولة. فإذا استطاع الأردن، أن يتجاوز البيروقراطية، ويجعل من الرقمنة وسيلة للعدالة والمساءلة والشفافية، لا مجرد أداة إدارية، فسيكون قد تجاوز الإرث التقليدي، إلى عالم المعرفة، الذي لا تحكم فيه الدولة بأوامر، بل بالبيانات والعقل والضمير العام.
في هذه الحالة، يكون الأردن أمام فرصة تاريخية لبناء نموذج متوازن في المنطقة، يجمع بين التقدم الرقمي والبعد الإنساني في الحكم، فتكسب معركة الاستقلال، ولكن بالوعيٍ والمعرفة، لا سلاح فيها سوى العقل والتنوير. فتكون الدولة التي تكتب فصولها في ذاكرة المستقبل.

*مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية











طباعة
  • المشاهدات: 4588
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
22-10-2025 09:05 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تنجح "إسرائيل" بنزع سلاح حماس كما توعد نتنياهو رغم اتفاق وقف الحرب بغزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم