01-10-2025 11:18 AM
بقلم : د. محمود الحبيس
في قلب الشرق، حيث تتداخل الرمال بالجبال، وتتشابك العصور بالتاريخ، يعلو التعليم العالي الأردني كشجرة سنديان راسخة الجذور، تمد أغصانها نحو سماء العالم محمّلةً بثمار العقول النابغة، وجذوعها تستند إلى إرثٍ من المؤسسات الأكاديمية والمهنية والبحثية. هذه الشجرة ليست مجرد رمز، بل هي كنز وطني حقيقي، يحتاج إلى رعاية وحماية كما تُصان التحف الثمينة في خزائن الوطن.
الأردن اليوم يحتضن أكثر من 350 ألف طالب وطالبة في مؤسساته الجامعية، بينهم ما يزيد على 40 ألف طالب وافد من أكثر من مئة دولة. هذا الرقم وحده يعكس مدى جاذبية التعليم الأردني وقدرته على التحول إلى صناعة تصديرية للعلم والمعرفة. وتشير التقديرات إلى أن قطاع التعليم العالي يرفد الاقتصاد الوطني بحوالي 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ويخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة؛ أرقام تجعل الاستثمار في الجامعات الأردنية استثمارًا استراتيجيًا بكل المقاييس.
ولأن الاستثمار في التعليم يشبه الاستثمار في النفط أو الطاقة النظيفة، فقد تولّت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مسؤولية حماية هذا القطاع الحيوي. وضعت الوزارة منظومة تشريعات وضوابط جودة، لضمان نزاهة الشهادات ومصداقية الجامعات، وحماية المستثمرين الأكاديميين من أي خلل قد يمس سمعة القطاع. فكما يحمي المزارع بستانه من الرياح، تحمي الدولة اليوم هذا “البستان العلمي” من كل ما قد يعصف به.
هذه السياسة الحصيفة ليست ترفًا، بل درسًا مستفادًا من تجارب عالمية سبقتنا. فـ كوريا الجنوبية، مثلًا، اعتبرت التعليم العالي جسرًا نحو المستقبل وضخت في عام 2022 نحو 14,695 دولارًا لكل طالب جامعي – أي حوالي 68٪ من متوسط الـ OECD – وجعلت الاستثمار في الجامعات والبحث العلمي ركيزة أساسية لنموها. النتيجة: انتقلت من دولة متلقية للمعونة إلى قوة صناعية وتكنولوجية عالمية، وانخفضت بطالة خريجيها بشكل ملموس، وارتفعت صادراتها المعرفية.
أما فنلندا، فقد قررت أن تجعل التعليم العالي أساس نهضتها؛ أنفقت ما يفوق 5.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، وسعت للوصول إلى نسبة 50٪ من حاملي الشهادات الجامعية بين الشباب بحلول 2030، وهو هدف يضمن قوة بشرية عالية المهارة واستقلالية اقتصادية متنامية. وفي تشيلي، أطلق برنامج “MECESUP” منذ عام 1998، بضخ تمويلات تجاوزت 245 مليون دولار لتحسين جودة الجامعات، فارتفعت مخرجات البحث العلمي، وتعززت مكانة الجامعات التشيلية عالميًا، واستفاد الاقتصاد من كوادر أكثر جاهزية وتنافسية.
هذه التجارب ليست حكايات بعيدة؛ هي بوصلة للأردن ليحمي كنزه المعرفي. فالتحديات التي نواجهها ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى نفس طويل واستثمار محمي من أي عبث، كي نضمن بقاء سمعة الجامعات الأردنية راسخة في المنطقة والعالم، ونحافظ على مكانتها كمحطة جاذبة للطلبة العرب والأجانب، ونزيد من إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي بما يتجاوز النسب الحالية.
ان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تتولى حماية قطاع التعليم العالي ولذا اوجدت تشريعاتها لضمان نزاهة ومصداقية الجامعات وحماية الاستثمارات دون أي سلبيات قد تؤثر على سمعته أسوة بالاستثمارات الهامة الأخرى في القطاعات المختلفة .ولذا يتم تشبيه قطاع التعليم العالي بأنه " بستان علمي " يقوم الأفراد والمؤسسات بزراعته وتطويره فيما تقوم الوزارة بحمايته من المخاطر والافات التي قد تعصف به .
إن الخوف على التعليم العالي ليس هاجسًا عابرًا، بل هو بوصلة ووعي يدفعنا لحراسة هذا الاستثمار كما تُحرس الثروات النفيسة. فجامعاتنا ليست جدرانًا من حجر ولا قاعاتٍ من مقاعد، إنما هي مخازن العقول التي تُبنى بها الأوطان وتُصان بها السمعة الدولية. وإنّ حماية هذا القطاع تعني حماية ثقة المجتمع به، وتعزيز مكانة الأردن كوجهة أكاديمية وإقليمية جاذبة، وضمان أن يبقى التعليم العالي صناعة وطنية راسخة تُسهم بفاعلية في الاقتصاد والتنمية......هكذا، يصبح التعليم العالي الأردني أكثر من خيارٍ أو سياسة، سيكون ضرورة استراتيجية تضمن بقاء الوطن في قلب سباق المعرفة العالمي. لإنّه الكنز الذي لا يفنى، ما دمنا نُحيط به بأسوار الجودة، ونرعاه بإرادةٍ صادقة، ونصونه ليبقى الثمرة الأطيب لمستقبل الأردن وأجياله.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
01-10-2025 11:18 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |