30-09-2025 08:28 AM
بقلم : زياد فرحان المجالي
في البيت الأبيض، حيث تُصاغ مشاهد السياسة الكبرى، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليعلنا ما سُمّي بـ"خطة الـ21 بندًا" لوقف الحرب في غزة. مؤتمر قصير، بلا أسئلة من الصحفيين، بلا تفاصيل علنية للبنود، لكنه كان كافيًا لإظهار أن واشنطن تحاول أن تمسك بخيوط اللعبة من جديد: نهاية الحرب، صفقة الرهائن، إعادة الإعمار، ومنع الضمّ.
إسرائيل والجوائز المباشرة
أول ما خرجت به إسرائيل من هذا الاتفاق هو تثبيت وجودها الأمني في ممر فيلادلفيا. حتى لو وُصف بأنه "مؤقت"، إلا أن مجرد قبوله كجزء من خطة دولية يعني أنه لم يعد اجتياحًا منفردًا، بل واقعًا مشروعًا بغطاء أميركي. هذا الشريط الضيق بين غزة ومصر ظلّ عقدة إسرائيلية لعقود، واليوم تحوّل إلى مكسب استراتيجي لا يقل قيمة عن أي إنجاز عسكري.
الملف الثاني هو الرهائن. نتنياهو جعل هذه القضية أولوية مطلقة، والخطة الأميركية تبنتها بالكامل، بحيث يتم إطلاق جميع الرهائن خلال 72 ساعة. هذا البند وحده يكفي لنتنياهو ليقدمه لشعبه على أنه نصر معنوي يعوّض إخفاقاته في الحرب.
أما حماس، فهي الغائب الحاضر. كل بنود الخطة تدور حولها: من وقف النار، إلى مستقبل الإدارة المدنية، إلى نزع السلاح. لكنها غُيّبت عن المنصة، في إشارة تخدم الرواية الإسرائيلية التي تصرّ على أنها "مشكلة أمنية" لا شريكًا سياسيًا.
الفلسطينيون بين الهدنة والوعود
ما حصل عليه الفلسطينيون يمكن اختزاله في وقف النار، ومنع التهجير، ووعود الإعمار. صحيح أن هذه ليست إنجازات سياسية بحجم التضحيات، لكنها بالنسبة لأهل غزة تعني الكثير: توقف القصف، نهاية شبح الترحيل إلى سيناء، وبارقة أمل بأن الأنقاض ستتحول إلى بيوت.
الخطة نصّت على أن لا يكون هناك ترحيل جماعي للفلسطينيين. هذه النقطة لم تأتِ صدفة، بل استجابة للموقف العربي الحاسم، خصوصًا من مصر والأردن، اللذين رفضا بشكل قاطع أي مشروع تهجير. مجرد إدراج هذا البند يُعدّ طيًّا علنيًا لصفحة سوداء ترددت طويلاً منذ اندلاع الحرب.
الوعد الآخر هو الإعمار. أميركا تعهدت أن تقود العملية، على أن تموّلها دول الخليج ومعها الأردن ومصر. الفلسطينيون هنا أمام تجربة مألوفة: وعود المؤتمرات وشيكات لم تصل. لكن مجرد إدراج الإعمار كبند رسمي يعني أن المجتمع الدولي لم يعد قادرًا على تجاهل أن غزة بحاجة إلى حياة بعد الموت.
العرب بين التمويل والتوازنات
الدول العربية حضرت في النصوص وغابت عن الصورة. مصر تجد نفسها مضطرة للتعامل مع واقع جديد: وجود إسرائيلي في ممر فيلادلفيا، ولو بصفة انتقالية. هذا يمس أمنها مباشرة، لكنه يأتي بغطاء أميركي يجعل الاعتراض عليه أصعب. الأردن ربح تثبيتًا علنيًا لرفض ضم الضفة الغربية، وهو مطلب استراتيجي لعمان منذ بداية الأزمة. أما دول الخليج، فهي مدعوة لتمويل الإعمار، ما يعني أن الخطة تضعها في موقع الممول السياسي والاقتصادي، لا صانع القرار.
تركيا وإيران غائبتان في النصوص، لكن حضورهما في المشهد لا يُستهان به. أنقرة قد تجد في الملف الإنساني منفذًا لتوسيع نفوذها، فيما ترى طهران في الخطة محاولة لإقصاء محور المقاومة عن غزة.
قطر: الرابح الأكبر
من بين العرب، خرجت قطر برصيد استثنائي. الاعتذار الرسمي الذي قدمه نتنياهو بعد إصابة عنصر قطري في قصف إسرائيلي لم يكن خطوة عابرة. هو سابقة في العلاقات الإسرائيلية–العربية، ويكشف حجم الثقل القطري في المفاوضات.
الدوحة لم تعد مجرد وسيط، بل أصبحت قناة لا يمكن تجاوزها. وجودها في قلب الخطة الأميركية اعتراف علني بأنها طرف أساسي في معادلة غزة. بالنسبة لقطر، هذا مكسب استراتيجي يكرسها كفاعل إقليمي لا يقل وزناً عن الدول الكبرى.
مغازلة ترمب لإسرائيل
لغة ترمب في المؤتمر لم تكن محايدة. هو تحدث كحامٍ لإسرائيل أكثر مما تحدث كوسيط. جعل أمن إسرائيل في صلب خطته، وضع قضية الرهائن كبند أول، وأقرّ بقاء الجيش الإسرائيلي في ممر فيلادلفيا. كل ذلك كان رسالة واضحة للداخل الأميركي قبل أن يكون لنتنياهو: "أنا الرئيس الذي يحمي إسرائيل".
هذه المغازلة تخاطب لوبيين رئيسيين في واشنطن: اللوبي اليهودي الأميركي الذي يملك وزنًا انتخابيًا وماليًا، والإنجيليون الذين يعتبرون دعم إسرائيل جزءًا من عقيدتهم السياسية. بالنسبة لترمب، هذا المؤتمر كان مسرحًا انتخابيًا بقدر ما كان إعلانًا دبلوماسيًا.
نتنياهو بين الفرعنة والضعف
نتنياهو حاول أن يبدو متماسكًا، متمسكًا بصلابة موقفه. تحدث عن أولوية الأمن، تمسك بممر فيلادلفيا، وأعاد التذكير بأسرى إسرائيل. لكنه خلف هذا الخطاب المتشدد، بدا ضعيفًا. لم يعترض على إعلان ترمب رفض ضم الضفة، ولم يملك أن يغيّر حرفًا مما قُرئ أمامه.
لغة جسده فضحت الكثير: يدان مشبوكتان، وقفة مشدودة، نظرات جانبية مترددة، وابتسامة متكلّفة. بدا وكأنه يقرأ النص المفروض عليه، أكثر مما يشارك في صياغته. هذه المفارقة بين خطابه الصلب وحضوره المرتبك تكشف أن فرعنته الداخلية لا تصمد أمام ضغط واشنطن.
مؤتمر بلا أسئلة
غياب الأسئلة كان قرارًا مقصودًا. البيت الأبيض أراد صورة نظيفة بلا مفاجآت. نتنياهو لا يريد أن يُسأل عن جرائم الحرب في غزة، عن المظاهرات في تل أبيب، عن التحقيقات القضائية التي تلاحقه. وترمب لا يريد أسئلة عن تفاصيل التمويل أو مدى واقعية الخطة.
بهذا، تحوّل المؤتمر إلى منصة إعلانات سياسية أكثر منه مواجهة حقيقية مع الإعلام. الرسالة التي خرجت: نحن نملك الخطة، وعليكم أن تستمعوا.
وفاء ترمب بوعوده للعرب
ترمب أوفى بما تعهد به في لقاءاته مع القادة العرب والإسلاميين: لا ضم للضفة، وقف إطلاق النار، الإعمار بتمويل خليجي، دور لقطر. بهذه البنود قدّم للعرب ما يرضيهم بالحد الأدنى، ليمنحهم مبررًا للقبول بالخطة وعدم معارضتها علنًا. أراد أن يظهر بمظهر الزعيم الذي يفي بوعوده، سواء مع إسرائيل أو مع العرب.
عودة الانتداب بوجه جديد
إدخال توني بلير في هيئة إدارة غزة المؤقتة أعاد إلى الأذهان صورة الانتداب البريطاني على فلسطين. المشهد اليوم يشبه وصاية مزدوجة: أميركية في القيادة، بريطانية في الواجهة. الفلسطينيون ليسوا أصحاب القرار، العرب ممولون، إسرائيل ضامن أمني، وأميركا وبريطانيا يلبسان قناع "الوصاية الدولية".
إنجاز مُعلن: وقف الحرب وطيّ التهجير
الخطة سُوّقت أولًا على أنها أوقفت الحرب. ترمب حصل على صورة "صانع السلام"، ونتنياهو حصل على استعادة الرهائن. طيّ صفحة التهجير كان إنجازًا آخر قُدم للعرب والفلسطينيين. لكن الحقيقة أن وقف الحرب لا يعني نهاية الصراع، وأن إغلاق ملف التهجير لا يمنع محاولات إعادة تشكيل غزة بطرق أخرى.
لغة الجسد: مسرح أميركي، حضور إسرائيلي
ترمب وقف بثقة، إيماءات حادة، نظرات مباشرة، كزعيم يفرض كلمته. نتنياهو وقف متوترًا، نظرات جانبية، وقفة مشدودة. كان المشهد مسرحًا أميركيًا بطلُه ترمب، فيما ظهر نتنياهو كشريك قلق يؤدي دوره بحذر.
ما وراء الكلمات الإنشائية
الخطاب بدا إنشائيًا أكثر مما هو تفصيلي. وعود عامة، عبارات مطمئنة، غياب نصوص واضحة للبنود. هذه الإنشائية لم تكن صدفة، بل وسيلة لترك مساحة للمناورة، ولمنع الالتزام الصارم بأي تفاصيل قد تُفشل الخطة منذ البداية.
خلاصة المشهد
إسرائيل ربحت الأمن والرهائن وشرعية وجودها العسكري. الفلسطينيون حصلوا على وقف النار ووعد الإعمار ومنع التهجير. العرب شاركوا بالتمويل وكسبوا تجميد الضمّ. قطر صعدت كوسيط لا يمكن تجاوزه. ترمب ربح صورة الزعيم الذي يحمي إسرائيل ويخاطب العرب في الوقت نفسه.
لكن خلف هذه اللوحة، يبقى السؤال قائمًا: هل تكفي الأوراق الأميركية والبيانات المعلنة لتغيير واقع غزة؟ أم أن الميدان سيبقى المكان الذي تسقط فيه كل الخطط القادمة من بعيد؟
زياد فرحان المجالي
كاتب ومحلل سياسي
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-09-2025 08:28 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |