24-09-2025 08:54 AM
بقلم : زياد فرحان المجالي
منذ اللحظة التي وقف فيها جلالة الملك عبد الله الثاني أمام منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين، حمل معه إرثًا هاشميًا راسخًا: رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، بوصفها رمزًا ثابتًا من ثوابت الحكم الهاشمي، وعنوانًا للشرعية الدينية والتاريخية للأردن. ومن هذا الإرث، انطلق خطابه ليعلن أن الأردن لم يذهب إلى نيويورك ليشارك ببيان بروتوكولي عابر، بل ليضع العالم أمام مسؤولياته، ويذكّر الجميع أن هناك شعبًا اسمه الشعب الفلسطيني، وأرضًا اسمها فلسطين، ومأساة اسمها غزة، وأن الأردن لن يتنازل عن دوره في هذه المعادلة مهما كانت الظروف.
خطاب الملك لم يكن مجرد كلام سياسي موزون، بل جاء بلهجة مختلفة: لهجة القائد الذي يتحدث من قلب الجرح، والذي يعرف أن صوته هو صدى لملايين الأردنيين والعرب الذين ضاقت صدورهم من النفاق الدولي، وازدواجية المعايير، وصمت العالم على جريمة القرن. ومن هنا، لم يعد الخطاب خيارًا دبلوماسيًا بقدر ما صار قرارًا سياسيًا واضحًا، يتجاوز حدود القاعة الأممية ليصل إلى كل بيت في الأردن وفلسطين والمنطقة.
التهدئة… قرار أردني لا مساومة فيه
حين قال الملك إن الوقت قد حان لوقف الاعتداءات وإيصال المساعدات الإنسانية بلا عوائق، كان في الواقع يعلن قرارًا أردنيًا صريحًا بأن الصمت لم يعد خيارًا. فالأردن، بحكم موقعه ودوره وتاريخه، لم يكن يومًا دولة تتفرج على المآسي. منذ حرب 1948، والأردن يتحمل عبء اللاجئين، ويمارس دوره الإنساني والسياسي بأمانة. واليوم، حين يطالب الملك العالم بالتحرك، فهو لا يتحدث بلسان السياسة فقط، بل بلسان الضمير الجمعي للأردنيين.
وهنا تكمن قوة الخطاب: أن الرسالة لم تكن مجرد مناشدة، بل تحذير مبطن للعالم بأن استمرار الحرب سيشعل المنطقة كلها، وأن الأردن لن يقبل أن تُختزل القضية الفلسطينية في معونات أو بيانات.
اللقاء مع أردوغان… قراءة أبعد من البروتوكول
لم يكن اللقاء بين الملك عبد الله الثاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش اجتماعات الأمم المتحدة تفصيلًا ثانويًا. بل كان إعلانًا غير مباشر عن أن الأردن يعيد تشكيل خيوط الدبلوماسية الإقليمية بما يخدم غاية واحدة: وقف الحرب على غزة، وتثبيت الحقوق الفلسطينية.
أردوغان، بما يمثله من ثقل سياسي وشعبي، هو الطرف الذي يعرف العالم أنه قادر على التأثير. والملك، بذكاء سياسي يحسب له، قرر أن يلتقيه ليؤكد أن الأردن وتركيا، رغم اختلاف المسارات، يمكن أن يتقاطعا عند النقطة الأهم: حماية الشعب الفلسطيني.
هذا اللقاء، حين يُقرأ بعين أردنية، يكشف عن قرار استراتيجي: أن الأردن مستعد لفتح مسارات شراكة مع كل الأطراف الفاعلة من أجل غزة، وأنه لا يتردد في إعادة تموضعه السياسي إذا كان ذلك سيخدم القضية.
فلسطين… ثابت الأردن الذي لا يتزحزح
الجزء الأهم في خطاب الملك كان عودته المؤكدة إلى حل الدولتين. ليس بوصفه خيارًا تفاوضيًا، بل باعتباره قدرًا سياسيًا لا مفر منه. الأردن الذي يعيش نصف شعبه معاناة اللجوء الفلسطيني، والذي يحمل عبء الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، لا يستطيع أن يتخلى عن هذا الموقف.
لقد ذكّر الملك العالم، ولو بتلميح رصين، أن القدس ليست ورقة مساومة ولا ملفًا عابرًا، بل قلب الصراع ومفتاح الحل. وأن الوصاية الهاشمية التي ينهض بها الأردن منذ عقود، هي ضمانة لصون الهوية الدينية والتاريخية للمدينة، وحماية لمسجدها الأقصى وكنائسها معًا، باعتبارها ميراثًا عربيًا وإسلاميًا ومسيحيًا لا يملك أحد حق العبث به. وكما حمل الملك الحسين من قبل عهد الوصاية، يواصل الملك عبد الله الثاني اليوم هذا الإرث الهاشمي، ثابتًا لا يتغير، بوصفه ركنًا من أركان الشرعية الأردنية ودرعًا للهوية العربية للقدس.
خطاب الملك هنا لم يكن رسالة دبلوماسية باردة، بل كان صيحة مدوية في وجه العالم: كفى تجاهلًا للقرارات الدولية. الاعتراف بفلسطين ليس منّة ولا خيارًا، بل واجب قانوني وأخلاقي. وهذه ليست مجرد كلمات؛ إنها إعلان بأن الأردن لن يقبل أن يتحول إلى شاهد صامت على طمس هوية فلسطين، أو إلى متفرج على محاولات تغيير هوية القدس.
خطاب في زمن النفاق الدولي
في لحظة سياسية عالمية مشبعة بالنفاق والازدواجية، جاء خطاب الملك ليضع الأصبع على الجرح. الغرب الذي يتباكى على أوكرانيا، ويستنفر المؤسسات الدولية لحماية المدنيين هناك، هو نفسه الغرب الذي يصمت أمام آلاف الشهداء في غزة. والملك لم يُخفِ هذه الحقيقة، بل واجهها بخطاب صريح يفضح هذا التناقض.
ولعل هذا هو سر قوة الكلمة: أنها كسرت جدار النفاق، وقالت ما لا يجرؤ كثيرون على قوله، لكن بأسلوب رصين يليق برجل دولة يعرف متى يرفع صوته، ومتى يترك رسالته تطرق العقول قبل أن تهزّ المشاعر.
الحل ليس عسكريًا
لقد أوضح خطاب الملك، بوعي رجل الدولة، أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا. فالحروب تزرع الموت ولا تصنع سلامًا. غزة ليست ميدانًا لاختبار الأسلحة، ولا فلسطين ساحة لتصفية الحسابات. والأردن، القريب من النار والأكثر خبرة بآثارها، يعرف أن الدبابات لا تفتح أبواب المستقبل، بل يفتحها الحل السياسي العادل، وحل الدولتين تحديدًا.
بهذا، وضع الأردن النقاط على الحروف: أن الطريق الوحيد للاستقرار هو الاعتراف بالحقوق، وتحويل القرارات الدولية من نصوص على الورق إلى واقع على الأرض.
الأردن… الحاضر لا الشاهد
أجمل ما يمكن أن يُقال عن خطاب الملك أنه نقل صورة الأردن كما هي: دولة صغيرة بحجمها، كبيرة بدورها. بلد لا يملك ثروات طائلة ولا جيوشًا جرارة، لكنه يملك ما هو أهم: شرعية أخلاقية وتاريخية، وشرعية دينية تتمثل في رعايته الهاشمية للمقدسات.
ومن منبر الأمم المتحدة، أكد الملك أن الأردن ليس مجرد مراقب، بل هو حاضر، ومبادر، وصاحب قرار. وهذه هي الرسالة التي التقطها كل أردني استمع للخطاب: أن صوته في نيويورك كان صوت عمان، وأن موقفه في الأمم المتحدة هو موقفنا جميعًا، وأن الأردن ـ مهما ضاقت خياراته ـ سيظل واقفًا في صف فلسطين، في صف القدس، في صف العدالة والضمير الإنساني.
قراءة أردنية خالصة
حين نقرأ الخطاب بعيون أردنية، ندرك أنه لم يكن موجّهًا للغرب وحده، بل لنا نحن أيضًا. كان رسالة طمأنة للأردنيين أن بلدهم، رغم أزماته الاقتصادية وضغوطه اليومية، ما زال في الصف الأول، حاضرًا في المحافل، ثابتًا في المواقف، مدافعًا عن فلسطين والقدس بوصايته التاريخية التي لم تتزحزح.
لقد حمل الملك إلى نيويورك صوت الأردنيين جميعًا، ليؤكد أن هذا البلد الصغير في موارده، الكبير في مواقفه، لا يزال حائط الصد الأخير أمام محاولات تصفية القضية أو تغيير هوية المدينة المقدسة.
الملك والقرار الأردني
خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني في الأمم المتحدة كان لحظة فارقة في السياسة الأردنية. لحظة أعلن فيها الأردن قراراته الكبرى:
وقف الحرب والاعتداءات في غزة.
تنسيق الجهود مع تركيا وشركاء الإقليم.
التمسك بحل الدولتين باعتباره قدرًا لا خيارًا.
تثبيت الوصاية الهاشمية على القدس، الإسلامية والمسيحية، كركيزة لحماية الهوية العربية للمدينة.
والتأكيد أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا، بل سياسيًا عادلًا يعيد الحقوق لأصحابها.
إنها ليست مجرد كلمات قيلت في قاعة دولية، بل قرارات سياسية أردنية صاغها الملك أمام العالم، وأثبت من خلالها أن الأردن لا يزال يملك الكلمة، ويملك الدور، ويملك الشرعية الأخلاقية والدينية التي لا يستطيع أحد أن ينافسه عليها.
بقلم: زياد فرحان المجالي
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
24-09-2025 08:54 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |