حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,20 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 6960

زياد فرحان المجالي يكتب: من "إسبرطة" إلى العزلة… نتنياهو وسقوط صورة إسرائيل

زياد فرحان المجالي يكتب: من "إسبرطة" إلى العزلة… نتنياهو وسقوط صورة إسرائيل

 زياد فرحان المجالي يكتب: من "إسبرطة" إلى العزلة… نتنياهو وسقوط صورة إسرائيل

20-09-2025 08:22 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : زياد فرحان المجالي
في لحظات التحولات الكبرى، لا تكشف المعارك وحدها مصير الدول، بل تكشفه الكلمات أيضًا. فالكلمة قد تكون طلقة تصيب، أو مرآة تعكس حقيقة كان صاحبها يود إخفاءها. بنيامين نتنياهو، الذي اعتاد أن يوجّه المشهد الإسرائيلي بخطابات طويلة ومتشابكة، أطلق مؤخرًا عبارته الشهيرة: "إسبرطة". كان يريد بها أن يلهم جمهوره، أن يقدّم إسرائيل كمدينة محاربة صغيرة محاطة بالأعداء. لكنه لم يدرك أن العالم سيقرأها على نحو مختلف: إعلان رسمي عن عقلية الحصار والانتحار السياسي.
لم يكن "خطاب إسبرطة" زلة لسان. كان نصًا معدًا بعناية، ومع ذلك جاء كاشفًا لانفصال نتنياهو عن الواقع. بينما كانت أوروبا تلوّح بعقوبات، وواشنطن تراجع مواقفها، والعالم كله يتحدث عن "إبادة جماعية" في غزة، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي ليقدم صورة أسطورية تعود إلى عصور ما قبل الدولة الحديثة. إسرائيل، التي طالما قدّمت نفسها باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بدت في الخطاب كقبيلة محاصرة تستعد للفناء أو للقتال حتى النهاية. وهنا تحوّل الشعار من محاولة تعبئة إلى اعتراف بالعزلة، ومن وسيلة للهروب إلى شاهد على سقوط.
لم يكن هذا المشهد منفصلًا عن مسار السنوات الأخيرة. فمنذ محاولات "إصلاح القضاء" عام 2023، التي استهدفت تقويض المحكمة العليا والسيطرة على النظام القضائي، اهتزت صورة إسرائيل في الغرب. كانت تلك اللحظة بداية انهيار الشرعية التي بنتها الدولة لعقود. ومع اندلاع حرب غزة وما تبعها من صور القصف والضحايا، تضاعف هذا الاهتزاز. لم يعد ممكنًا إقناع العواصم الغربية أن إسرائيل تخوض حربًا دفاعية، بعدما تحولت مشاهد الدمار والضحايا المدنيين إلى عنوان يومي على شاشات العالم.
ومع ذلك، لم يتصرف نتنياهو كرجل دولة يسعى لإنقاذ الموقف، بل كزعيم محاصر يبحث عن ذريعة. ألقى المسؤولية على "الهجرة الإسلامية إلى أوروبا"، وكأن عزلة إسرائيل ليست نتاج سياساته، بل قدر تاريخي أو معاداة أزلية للسامية. كانت هذه محاولة يائسة لتخفيف المسؤولية، لكنها كشفت أكثر مما أخفت: فالرجل لا يرى الأزمة في ذاته، بل في العالم كله.
لكن لو كان خطاب إسبرطة قد كشف العقلية، فإن تصريحات وزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، كشفت النوايا. حين تحدث عن غزة باعتبارها "فرصة عقارية" ومشروعًا يمكن أن يدر أرباحًا بعد الهدم وإعادة البناء، شعر العالم كله بالصدمة. لم يعد الأمر يتعلق بأمن قومي أو دفاع عن النفس، بل بمصالح اقتصادية واستيطانية. التصريح أثبت أن الحرب ليست وسيلة لردع حماس، بل ذريعة لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية. بالنسبة للداخل الإسرائيلي، كان ذلك اعترافًا بأن الحكومة تفكر بمنطق المقاول، لا بمنطق الدولة.
هذا التوجه يختصر جوهر المشروع: حرب بلا أفق، هدفها إطالة عمر الحكومة وضمان مكاسب ضيقة. وكلما ارتفعت كلفة الدم، ارتفعت بالمقابل مكاسب الخطاب الشعبوي. وهكذا يتحول الصراع من قضية أمنية إلى أداة سياسية، ومن معركة وجودية إلى لعبة بقاء لرجل واحد وحلفائه.
في الداخل، يزداد الاعتقاد أن سلوك نتنياهو أقرب إلى "جهاد شخصي" ضد الدولة. كثير من المحللين شبهوه بشخصية "مايكل كولهاس" في الأدب الألماني، التاجر العادل الذي تحول إلى مقاتل انتقامي بعدما ظُلم. نتنياهو، الذي يرى في لوائح الاتهام مؤامرة حيكت لإسقاطه، يتصرف بروح انتقامية تجاه مؤسسات الدولة ذاتها. كلما اقتربت فرص التسوية، دفع نحو التصعيد. كلما ارتفع صوت النقد الداخلي، فتح جبهة جديدة.
وتتضح هذه الروح أيضًا في تعامله مع الأجهزة الأمنية. تعيين الجنرال دافيد زيني على رأس الشاباك لم يكن مجرد اختيار مهني، بل عملية سياسية بامتياز. فقد جرى بعيدًا عن القنوات المعتادة، وبطريقة جعلت الرجل "مدينًا" له بالمنصب. الذاكرة القريبة تكشف خطورة ذلك: نتنياهو حاول في السابق استغلال الشاباك لتصفية خصوم سياسيين. مرةً أراد التشكيك في نزاهة نفتالي بينيت، وأخرى ضغط لإعلان أن بيني غانتس عرضة للابتزاز من إيران. جميع هذه المحاولات رُفضت من قادة سابقين، لكن السؤال هو: هل سيرفض زيني إذا طُلب منه ذلك؟
الخطورة هنا أن الشاباك ليس مجرد جهاز أمني؛ إنه أداة تملك صلاحيات سرية يمكن أن تتحول إلى سلاح ضد الداخل. وإذا أصبح ولاؤه للزعيم لا للدولة، فإن آخر خطوط الدفاع عن الديمقراطية ستنهار.
في موازاة ذلك، تتكشف فضائح سياسية تكاد تفوق في صدمتها أي مواجهة عسكرية. إسرائيل التي اعتادت أن تسقط حكومات بسبب قضايا فساد، باتت تعيش ما يمكن تسميته "الفساد بلا حياء". وزيرة مثل ماي غولان تواجه اتهامات بتعيين أقارب في وظائف وهمية برواتب تُدفع من المال العام، جزء منها يعود إليها. ليست القضية حجم الأموال، بل سقوط المعايير. لم يعد السياسي يخشى الفضيحة، بل صار يتعامل معها كأمر عادي. الفساد لم يعد مؤسسيًا منظمًا، بل صار فوضويًا مبتذلًا.
ومع سقوط المعايير السياسية، جاء السقوط الاجتماعي. أرقام مكتب الإحصاء المركزي أظهرت أكبر موجة هجرة عكسية منذ عقود. عشرات الآلاف غادروا إسرائيل في 2024، معظمهم من النخب المتعلمة والكوادر التقنية. لم تعد الدولة بالنسبة لهم "أرض الميعاد"، بل أرضًا فاقدة للمعنى. أسباب ذلك واضحة: حرب لا نهاية لها، عزلة دولية متزايدة، وانعدام الثقة بالمستقبل. وهكذا تحقق ما لم يتخيله مؤسسو المشروع الصهيوني: دولة تخوض الحروب باسم الأمن، بينما يفقد مواطنوها الإحساس بالأمان.
الأثر الأكبر لهذه الهجرة كان على قطاع التكنولوجيا، "قاطرة إسرائيل" الاقتصادية. المقاطعة الدولية، وتراجع الاستثمارات، وخروج الشركات، جعلت هذا القطاع في أزمة استراتيجية. ليست المسألة مالية فقط، بل سياسية: فحين يتوقف الابتكار ويتراجع الاستثمار، تفقد إسرائيل الورقة التي طالما تفاخر بها أمام الغرب. والأسوأ أن الحكومة مشغولة بإنقاذ رئيسها من المحاكمة أكثر من إنقاذ الاقتصاد من الانهيار.
وفي ظل هذا كله، يتعمق الشرخ الاجتماعي. خطاب "كراهية النخب"، و"كراهية الأشكناز"، والتحريض ضد العلمانيين، كلها أدوات تستعملها الحكومة لإشغال الداخل بمعارك هوية بدل مواجهة الأزمات الكبرى. هذه الوصفة ليست جديدة على التاريخ: دول كثيرة انهارت حين تحولت من كيان جامع إلى ساحة صراع بين مكوناتها. إسرائيل اليوم تسير في هذا الاتجاه: عقد اجتماعي ينهار، مجتمع يتفكك، قدرة على المواجهة تتراجع.
حين ننظر إلى الصورة الكاملة، نجد خيطًا واحدًا يربط كل هذه التفاصيل: نتنياهو يقود إسرائيل من خطاب إسبرطة إلى عزلة دولية، من تصريحات سموتريتش إلى فضائح الفساد، من تعيين زيني إلى انهيار الهايتك، ومن الهجرة العكسية إلى انقسام المجتمع. كلها ليست أحداثًا منفصلة، بل فصول في قصة واحدة: سقوط صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية، وتحولها إلى كيان منبوذ.
قد يقول البعض إن إسرائيل واجهت أزمات كثيرة وتجاوزتها، لكن الفارق اليوم أن الأزمة لم تعد مع الخارج وحده، بل مع الذات. الخارج قد يضغط، لكن الداخل هو الذي ينهار. والمؤسسات التي كان يُعوّل عليها لحماية الديمقراطية أصبحت مهددة بالاستتباع. والمجتمع الذي كان يتباهى بروح "البقاء" يبحث اليوم عن مخرج فردي في جواز سفر أجنبي.
التاريخ لم يقل كلمته بعد، لكن المؤشرات أوضح من أي وقت مضى: إذا لم يحدث تغيير جذري في القيادة والمسار، فإن المشروع الصهيوني ذاته سيكون أمام اختبار وجودي. ليس لأن الأعداء أقوى، بل لأن الداخل فقد الثقة، والقيادة فقدت البوصلة، والدولة فقدت معناها.











طباعة
  • المشاهدات: 6960
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
20-09-2025 08:22 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الاتصال الحكومي بقيادة الوزير محمد المومني؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم