حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,1 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 3474

الرقيبات يكتب: "الكتابة حروف تشق طريقها نحو الخلود"

الرقيبات يكتب: "الكتابة حروف تشق طريقها نحو الخلود"

 الرقيبات يكتب: "الكتابة حروف تشق طريقها نحو الخلود"

30-08-2025 02:21 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : أ.د غازي عبدالجيد الرقيبات
قال حكيم “ :لا تكتبْ بكفّكَ غيرَ شيءٍ.......يسُرّك في القيامة أنْ تراهُ"، فالكتابة شهادة على صاحبها قبل أن تكون وسيلة لإقناع غيره، وهي ميزان يُظهر معدن الكاتب وصدق عزيمته، ليست المقالة الصحفية — حين تُكتب كما ينبغي لها أن تُكتب — مجرّد رصٍّ للجمل أو ترتيبٍ للآراء في أعمدة الحبر، إنّها فنّ يُحسن استقبال القارئ منذ العتبة الأولى، ويهيّئ ذهنه للسير على أرضٍ ممهَّدة قبل أن يُلقيه في عمق الفكرة، إن مقدّمة المقال لا ينبغي أن تكون عتبة باردة، بل نفحة من نسيمٍ يُهيّئ القلب لفهم المقصد، وإشارة أولى إلى طريقٍ ستتّضح ملامحه مع كل سطرٍ تالٍ.
ومن أولى أركان هذا الفن احترام القارئ: احترام ذائقته الفكرية، واحترام توقه لكل جديد، واحترام وقته الذي لا يحتمل تكرارًا ممجوجًا أو تخبّطًا في عرض الأفكار، فالقارئ الذكيّ لا ينتظر من الكاتب أن يرشقه بالعناوين الصاخبة، بل أن يصطحبه في رحلة نصٍّ مشوّقة، متينة البناء، كل فقرة فيها تنقل المعنى خطوة إلى الأمام دون رجوع أو دوران في الفراغ.
ثمّ يأتي دور التشخيص: لا مجاملة ولا مواربة، بل وقوفٌ أمام الحقيقة كما هي، لا كما تُراد أن تُرى، هنا يظهر الكاتب الأصيل، لا في قدرته على سرد الوقائع فحسب، بل في مهارته في تعرية الجذور الدفينة للمشكلة؛ جذور ربما نسقنا نحن — أفرادًا وجماعات — الماء إليها، حتى اشتدَّ عودها وترعرعت في تربة الصمت أو في غياب الوعي، إن الإقرار بدورنا في خلق الأزمات لا يُنقص من مكانتنا، بل يعيد إلينا كرامة الاعتراف الذي هو أوّل أبواب الإصلاح.
ثم ياتي التحليل العميق، لا باعتباره مسرحًا للاستعراض اللفظي، بل بوصفه وسيلة لإضاءة العتمة، فالتحليل الحقّ يُشبه مشرط الجرّاح: دقيقٌ في القطع، رحيمٌ في الغاية، يزيل العطب ليكشف العافية الكامنة تحت الجلد، لكن كل تحليل يفتقد الإقناع الداخلي من الكاتب نفسه يفقد قدرته على التأثير؛ فمن لم يؤمن بما يكتب، كان أول الجاحدين لمصداقيته، ولا ينتظرنّ من القارئ أن يصدّق ما هو مكذّبٌ في قلب صاحبه، كما قال أبو تمام:
إذا لم تزدْ شيئًا على الدنيا..............................كنتَ زائدًا فيها على ما فيها
ولأنّ المقال ليس خطاب بكاء على الأطلال، فإنّ الحديث عن الحلول والحقائق يأتي ضرورةً لا ترفًا، لكن هذه الحلول لا بد أن تكون جذرية، قادرة على اجتثاث العلّة من منبتها، لا ترقيعًا يُجمّل السطح ويُبقي التعفّن في العمق، فالكاتب المبدع يقدّم حلولًا عملية، واقعية، قابلة للتطبيق، ويصوغها بأسلوب يُشبه دعوةً للمشاركة لا أوامرَ من برجٍ عاجي.
أما الخاتمة، فليست خاتمة فحسب، بل وصية فكرية، هنا يُذكّر الكاتب القارئ بالأسلوب الأمثل للحياة والفكر والسلوك، يضع أمامه مرايا صغيرة ليتأمّل صورته، ويحثّه — من غير وعظ مباشر — على الحفاظ على النمط الأمثل الذي بُني المقال لأجله، وبذلك يكون أسلوب الكتابة الرفيع هو ذلك الذي يجمع حرارة القلب إلى صرامة العقل؛ يعلو فوق الانحطاط اللفظي والتهكّم الرخيص، ويستبدل الصراخ بالنبرة الرصينة التي تُصغي لها العقول قبل الآذان، ففي هذا الأسلوب لا مكان للثرثرة، ولا للتكرار، ولا للمحسّنات التي تُهدر المعنى، بل لكل كلمة وظيفة، ولكل جملة هدف، ولكل مقال رسالة تظلّ بعد أن يُطوى الجريدة أو يُغلق المتصفّح،
"وما من كاتبٍ إلا سيَفنَى.......... ويبقَى الدهرُ ما كتبت يداهْ"
واخيرا اذكر نفسي دائما بان الكتابة الراقية أشبه بنسيج حريرٍ متين: ملمسه ليّن لكن خيوطه لا تتقطع، إنّها تعكس احترام الكاتب لعقله أوّلًا، ثم احترامه لعقل قارئه الذي يستحق ما هو أرفع من المواعظ الفارغة أو السخرية المبتذلة، فهي فنّ يجمع التهيئة الدقيقة، والتشخيص الأمين، والتحليل العميق، والإيمان الصادق، والاعتراف المسؤول، والحلول الحكيمة، والتوجيه الرشيد… حتى يصبح المقال لا خبرًا عابرًا، بل تجربة فكرية تُرافق القارئ إلى ما بعد الصفحة الأخيرة.

أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات











طباعة
  • المشاهدات: 3474
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
30-08-2025 02:21 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
لا يمكنك التصويت او مشاهدة النتائج

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم