29-06-2025 09:35 AM
بقلم : أ. د. ليث كمال نصراوين
ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني قبل أيام خطابا هاما أمام البرلمان الأوروبي في بروكسل، تناول فيه أهم القضايا الإقليمية والدولية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث جاء الخطاب الملكي بمثابة مرافعة قانونية متكاملة الأركان أساسها الدفاع عن حقوق الإنسان، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني، وضرورة احترام القانون الدولي ومبادئ الشرعية الدولية من أجل تحقيق الأمن والسلم العالمي.
ويظهر الجانب القانوني في خطاب جلالة الملك أمام الأوروبيين من خلال استخدامه مصطلح "القانون" خمس مرات في حديثه، إلى جانب الموضوعات ذات الطبيعة القانونية التي قام بالتركيز عليها، وفي مقدمتها المرجعية القانونية للقضية الفلسطينية. فقد جاءت الدعوات الملكية بوقف إطلاق النار في غزة ورفض تهجير الفلسطينيين والدعوة لحل الدولتين لتنسجم مع المواثيق الدولية، ومن ضمنها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تحظر النقل القسري للسكان في زمن النزاع، بالإضافة إلى توافقها مع قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
كما استند جلالة الملك في حديثه حول أهمية إعطاء الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني إلى مبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة المنصوص عليه في المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر على الدول الأعضاء التهديد باستعمال القوة في علاقاتهم الدولية أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي. كما يستند الحق في تقرير المصير إلى العهدين الدوليين لحقوق الإنسان لعام 1966، والذي يتسع نطاقه ليشمل عدم حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة به، وحقه في تقرير مركزه السياسي والتصرف الحر بثروات دولته ومواردها الطبيعية.
ومن الجوانب القانونية الأخرى في المرافعة الملكية التأكيد على أهمية الالتزام بالمواثيق والأعراف الدولية بما تتضمنه من قيم إنسانية وأخلاقية، حيث وصف جلالة الملك ما يحدث في غزة بأنه "نسخة مخزية من إنسانيتنا"، وذلك إشارة منه إلى الانتهاكات الصارخة لقواعد القانون الدولي الإنساني، وبأن الحرب الإسرائيلية على المدنيين في قطاع غزة واستهداف المنشآت الصحية تشكل انتهاكا صريحا لقواعد حماية المدنيين والمرافق العامة في النزاعات المسلحة، والتي تُعد جرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
كما أن صرخات جلالة الملك إلى أعضاء البرلمان الأوروبي ودعواته للجميع بضرورة تحمل مسؤولياتهم الدولية والتحرك الفوري لوقف الانتهاكات المتكررة في قطاع غزة، يشكل استحضارا واضحا لمبدأ ثابت في القانون الدولي هو "المسؤولية عن الحماية" (Responsibility to Protect). فهذا المبدأ الذي جرى إقراره في عام 2005، يقوم على أساس ثبوت مسؤولية كل دولة فرد عن حماية شعوبها من الجرائم الجماعية، وأنه يجب على المجتمع الدولي أن يتدخل ويتحمل مسؤوليته في توفير هذه الحماية إذا ما فشلت أي دولة في تحقيق هذه الرعاية الإنسانية.
ولم ينس جلالة الملك في مرافعته الشفوية الإشارة إلى الوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية، حيث أعاد جلالته التذكير بالدور الأردني التاريخي في حماية الأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس، والذي هو حق ثابت وراسخ جرى تكريسه في العديد من القرارات الدولية والاتفاقيات الخطية، التي كان آخرها الاتفاق الموقّع بين جلالة الملك والرئيس الفلسطيني في عام 2013.
كما يتوافق الموقف الأردني من حماية المواقع الدينية مع اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تنص في المادة (27) منها على ضرورة "حماية الأفراد المدنيين وعلى وجه الخصوص احترام معتقداتهم الدينية"، ومع القرارات الدولية التي ترفض تغيير الوضع القانوني القائم في مدينة القدس باعتبارها مدينة محتلة.
ومن خلال إشارة جلالة الملك لممارسات الاحتلال الإسرائيلي "بهدم منازل الفلسطينيين وبساتين الزيتون والبنية التحتية"، فإنه يؤكد على أن هذه السلوكيات تشكل انتهاكا صريحا للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص في المادة (53) منها على أنه "يُحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة، منقولة أو ثابتة، تتعلق بأشخاص محميين."
كما أن هدم منازل المدنيين يعتبر عقوبة جماعية محظورة بموجب المادة (33) من اتفاقية جنيف، وممارسة تنطوي على تطهير عرقي وخرق لمبدأ التناسب والضرورة العسكرية، وأن اقتلاع بساتين الزيتون وتدمير الأراضي الزراعية يُعد انتهاكا لحق السكان المحميين في سلامة ممتلكاتهم، التي تقررها المادة (46) من اتفاقية لاهاي 1907 التي تحظر مصادرة الملكية الخاصة والاعتداء عليها.
أما تدمير البنية التحتية من طرق وشبكات كهرباء ومياه ومرافق عامة، فإنها أفعال مجرمة بطبيعتها وتتعارض مع مبدأ حماية السكان المدنيين الذي قررته المادة (147) من اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تعتبر التدمير الواسع غير المبرر للممتلكات المدنية جريمة حرب لغايات ثبوت الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية في الملاحقة الجزائية.
وقد اختتم جلالة الملك مرافعته القانونية بالتحذير من تداعيات غياب القانون وتراجع القيم الإنسانية، حيث أشار إلى أن العالم "يشعر بأنه قد فقد بوصلته الأخلاقية، وبأن القواعد تتفكك والحقيقة تتبدل كل ساعة، والكراهية والانقسام يزدهران". فهذا التحذير الملكي هو إشارة إلى التآكل الحاصل في نظام العلاقات الدولية الذي يُفترض به أن يقوم على أساس سيادة القانون وتعزيز القيم المشتركة.
إن ما أراد جلالة الملك التعبير عنه في حديثه عن فقدان البوصلة الأخلاقية، هو تنبيه البرلمان الأوروبي إلى المخاطر الوجودية الناجمة عن عدم احترام القانون الدولي، والتي قد تؤدي إلى فوضى واسعة النطاق، فيكون التمسك بأحكام القانون وتطبيقه ليس مجرد واجب أخلاقي بل ضرورة استراتيجية ملحة لحفظ الأمن والسلم الدوليين.
وقد أبدع جلالته في مرافعته القانونية عندما خاطب الأوروبيين بلسان حالهم، مستحضرا تجربة شعوبهم القديمة عندما "صمموا على ترك الماضي وبناء عصر جديد من السلام، فاختاروا الكرامة الإنسانية عوضا عن الهيمنة، والقيم عوضا عن الانتقام، والقانون عوضا عن القوة، والتعاون عوضا عن الصراع".
ولم يغب الحديث عن الأردن في مرافعة الملك القانونية، فوصفه بأجمل الأوصاف بأنه موطن عُمّاد السيد المسيح عليه السلام. ففي زمن تتعالى فيه الأصوات الداعية إلى الكراهية والانقسام على أسس دينية وطائفية، يبرز الأردن نموذجا مثاليا في ترسيخ قيم الحرية الدينية والمواطنة المتساوية. فهذا النموذج لا يستند فقط إلى الإرث الثقافي والروحي للأردن، بل هو انعكاس مباشر لنصوص دستوره وتشريعاته الوطنية والتزامه بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.
إن الوجود المسيحي في الأردن يشكل عنصرا أساسيا لقيامه وركيزة من ركائز العمل والبناء فيه؛ فالمسيحيون مكوّن وطني أصيل وشريك في التاريخ مع أخيه المسلم وفي حمل المسؤولية الوطنية، وهذا ما عبّر عنه جلالة الملك بقوله "بلدنا المسلم هو موطن لمجتمع مسيحي تاريخي، وجميع مواطنينا يتشاركون في بناء وطننا".
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
29-06-2025 09:35 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |