01-06-2025 08:55 AM
بقلم : د. أجمل طويقات
قدَّمَ الفنّانُ السّوريُّ "غوّار" أدوارًا تمثيليّةً رائعةً، حَظِيَتْ بالشّهرةِ، ولَقِيَتْ تقديرًا من قِبَلِ قِطاعٍ واسعٍ من مُتابِعي شاشةِ التّلفازِ. ولعلَّ أبرزَ هذهِ الأدوارِ وأهمَّها هو تَقمُّصُهُ شَخصيّةَ "إبراهيم بيك الدُّغْرِي" في مسلسلاتِ بدايةِ تسعيناتِ القرنِ الماضي.
الاسمُ والمُفارقةُ: "دُوغْرِي" لا يَشبهُ الدُّغْرِي
اختارَ الكاتبُ اسمَ (الدُّغْرِي) لبطلِ روايتِهِ؛ ليُلاحِظَ القارئُ (المُشاهِدُ) حَجمَ المُفارقةِ بينَ الاسمِ والواقعِ؛ فَهُما على طرفَيْ نقيضٍ. فكلمةُ (دُوغْرِي) كلمةٌ عثمانيّةُ الأصلِ، انتقلتْ إلينا منهم، لكنّها تُلفَظُ عندَهم (دُوغْرُو) (dogru)، ومعناها: مُستقيمٌ أو صحيحٌ. ويقولُ بعضُ العامّةِ أيضًا "دوز دُوغْرِي"، كنايةً عن المُبالغةِ في الاستقامةِ، وأصلُها في اللغةِ العثمانيّةِ (دوس دُوغْرُو) (dosdogru)، وتَعني: مُستقيمًا بالغَ الاستقامةِ، أو صحيحًا بالغَ الصِّحّةِ.
وتُجسِّدُ روايةُ الدُّغْرِي، التي كتبها الكاتبُ التُّركيُّ "عزيز نيسين"، شَخصيّاتٍ من واقعِنا المَعِيشِ، ولعلَّ بطلَها "الدُّغْرِي" يَلمَسُ واقعَنا بصورةٍ صادمةٍ. فمن خلالِ تتبُّعِ أطوارِ هذهِ الشخصيّةِ، تُدرِكُ مَدى عُمقِها المُدهِشِ، وقدرتِها على الدَّهاءِ، واستخدامِ أساليبِ التَّحايُلِ والتَّزييفِ لتحقيقِ النّجاحِ تلوَ النّجاحِ.
"الدُّغْرِي" لم يكن صادقًا في مَشاعِرِهِ اتجاهَ مَنْ يُحبُّهم؛ لأنَّ الحبَّ الحقيقيَّ انتماء للوطن، وتَجرُّدٌ من الأنانيّةِ وحَظوةِ النّفسِ، ومساحاتٌ واسعةٌ من الأملِ والتّضحيةِ والرّحمةِ، وفَهمٌ للآخَرِ واحترامٌ له، وكلُّ هذا لم يتَّصفْ بهِ "الدُّغْرِي".
قريةٌ زراعيّةٌ منسيّةٌ... وأشباحُ الانفصالِ
وكانتْ مُعظمُ الشّخصيّاتِ الرّئيسيّةِ خارِجَ إطارِ العملِ الزّراعيِّ، معَ أنَّ الأحداثَ تجري في قريةٍ زراعيّةٍ منسيّةٍ، تُظهِرُ الأحداثُ عَجْزَ سُكّانِها عن الاتّصالِ بمحيطِهم، وبخاصّةٍ العاصمةِ. وهذا لهُ دلالاتٌ خاصّةٌ، قد تَدلُّ على انقطاعِهم عن واقعِهم، وبيئتِهم اللّصيقةِ بهم، أي بُعدُ الشّخصيّاتِ عن واقعِهم الحقيقيِّ.
وقد بَنى "الدُّغْرِي" تاريخًا مُزيَّفًا لعائلتِهِ، فجَعَلَ لوالدِهِ مقامًا رفيعًا، ولجَدِّهِ مقامًا مُزوَّرًا؛ فهو "الباشا الشّهيد"، فسلَّمَ مَنْ حولَهُ بهذا التّاريخِ المُختلَقِ، رغبةً ورهبةً، وهم الأعلَمُ بأنَّ كُلَّ ما يقولهُ محضُ افتراءٍ.
والمُتتبِّعُ لحياتِنا اليوميّةِ يَجدُ أنَّ شَخصيّةَ "الدُّغْرِي" تتكرَّرُ كلَّ يومٍ؛ فكم من شَخصيّةٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ انتهازيّةٍ تَدورُ الآنَ في ذهنِ كُلِّ واحدٍ منّا، انفلتَتْ من عِقالِها؛ لتحقّقَ مَآربَها تحتَ شعارِ "الغايةُ تُبرّرُ الوسيلةَ".
حينَ يَتأنْق الكذبُ ويَتوارى الصِّدقُ
يسيرُ "الدُّغْرِيّونَ" وفقَ منهجٍ مَحسوبٍ بدقّةٍ، لا يُخطئونَ الكذبةَ، بل يُطوّرونَها! يَكذبونَ، ثمَّ يَكذبونَ أكثر، فيتراكمُ الكذبُ، حتى يُصبحَ جبلاً مُتناسقَ القِمَمِ، مُدهِشَ التّكوينِ، ثم يُصدّقُهُ البُسطاءُ، ويُؤمنُ بهِ المُتعَبونَ، ويصفّقُ لهُ المُرهَقونَ من الحقيقةِ!
بينَ دون كيشوت والدُّغْرِي... أيُّهم أقربُ إلى الواقعِ؟
وفي الوقتِ الذي يَرتطمُ فيهِ "دون كيشوت" بالأرضِ بعد أن هاجمَ طواحينَ الهواءِ بسيفهِ الورقيِّ، يتكاثرُ "الدُّغْرِي" في الأزقّةِ، يتبوّأُ المناصِبَ، ويخطب على المسارحِ، ويَحضُرُ في نشراتِ الأخبارِ، أو يُدرّسُ في بعضِ الجامعاتِ أو ... بصفته "رمزَ النّجاحِ المحلّيِّ". فأيُّ نجاحٍ هذا؟!
نجاحٌ مُطليٌّ بالرّياءِ، مُلبَّسٌ بالتّزويرِ، يركن على صُعود الكَذبةِ، وتَصفيقُ السذج، مُعطَّرٌ بعطرِ السّلطةِ، وممهورٌ بختمِ العَبثِ، نجاحٌ يُغنّي لهُ بعضُ المُتسلّقينَ والانتهازيين.
الشّيخةُ الموروثةُ، والمَفاخراتُ الوهميّةُ
ألم تَرَ أنَّ "الدُّغْرِي" حرَصَ على بناءِ مقامٍ لجَدِّهِ التّقيِّ الورِعِ الشّهيدِ؟! أليستْ سيرةُ الأجدادِ لدى بعضِنا تُشكّلُ فهرسَ الوجاهةِ، ومِنبرَ الزّهوِ، ومَأوى المُفاخراتِ في ليالي السّمرِ؟! كأنَّ أكذوبة الشيخة تُورَّثُ، والمواقفَ المزيفة تُحفَظُ!
الدُّغْرِيُّ في داخِلِنا؟!
وقد يتسلَّلُ "الدُّغْرِي" إلى مرابِطِ قلوبِنا، ونحنُ في غفلةٍ عنهُ؛ فمرّاتٍ عديدةٍ أختلِسُ النّظرَ، فأجِدُ ملامحَهُ بينَ ثنايا كلامي – "بعيدٌ عنكم" – فأتصارعُ معهُ، يَهزِمني مرّةً، وأهزِمُهُ مرّاتٍ.
"الدُغْرِي" ليسَ شخصًا، بل ظاهرةٌ... لعَلَّهُ نحنُ إذا سَكَتْنا، وإذا رغبنا، وإذا أردْنا أن نُسايِرَ الباطلَ كي لا يَغضبَ، وإذا مدَحْنا المُزوَّرَ لأنّهُ أكثرُ لمعانًا!
"الدُّغْرِي" هو دعوةٌ لإيقاظِ المواطنِ العربيِّ من سُباتِهِ العَميقِ، ونقدٌ لِكُلِّ ما هو خاطئٌ في المُجتمعِ، وبصيرةٌ للمُشاهِدِ بِمآسي الإنسانِ البسيطِ، الذي يسمحُ لـ"الدُّغْرِي" أن يَتمدَّدَ داخلهُ، وفي مجتمعِه، في ظلِّ غيابِ الوعيِ، وتراخي السُّؤالِ، ورُكونِ البَصيرةِ إلى التّقاعدِ.
نحنُ نَصنعُ دُغْرِيّينا... بأنفسِنا!
والمُحزنُ حقًّا، أنَّ "الدُّغْرِيّينَ" لا يَتوسَّعونَ من فراغٍ، بل نحنُ مَنْ نَفْرُشُ لهم الطريقَ، ونُهديهمُ المَكانةَ، ونَصنعُ لهمُ المجدَ المزَّيفَ بأيدينا. نَعلمُ تمامًا زَيْفَهم، ونَراهمْ وهمْ يَكذبونَ كما يَتنفّسونَ، ثمَّ نُصفّقُ لهم إعجابًا، ونتفنّنُ في التّملُّقِ إليهم؛ وكأنّنا نُمارِسُ طقسًا مِن طقوسِ التّفاهةِ.
فما إنْ يَظهرَ أحدُهم على الشّاشةِ، حتّى يَتسابقَ جَيشٌ من المُطبّلينَ إلى خَلعِ الأوصافِ البطوليّةِ عليهِ، وتَقديمِهِ بوصفِهِ أنموذجًا وطنيًّا يُحتذى، بينما هو في الحقيقةِ مجرَّدُ نُسخةٍ مُكرَّرةٍ من الأكاذيبِ المُنمّقةِ، والذّكاءِ الباردِ، والانتهازيّةِ المُقنّعةِ.
مَجدُ التّفاهةِ وصُعودُ الزّيفِ
وهكذا تَصعدُ التّفاهةُ درجاتِ المجدِ على أكتافِ السُّذَّجِ والمُتواطئينَ، حتّى تُصبحَ واقعًا لا فِرارَ منهُ. فهل نحنُ ضحايا "الدُّغْرِي"؟! أم شركاؤهُ في الجريمةِ؟! أم كُلَيْنا سواءٌ في المَلامةِ؟!
إنَّ مأساتَنا لا تَكمُنُ في وُجودِ "الدُّغْرِيّينَ"، بل في الجُمهورِ العريضِ الذي يَصنعُ منهم أبطالًا، ويَراهم على خشبةِ الحُضورِ العامِّ أكثرَ أهلًا للمنصّةِ من أصحابِ الفكرِ، والحقيقةِ، والاستقامةِ. كأنَّ هذا الزّمانَ قد أغلقَ بابَ القِيمِ، وفتَحَ بوّابةَ الكاريزما الجَوفاءِ، والتّلميعِ الإعلاميِّ الرّخيصِ.
لقد أَصبحَ التّافهونَ نُجومًا، وأضحى "الدُّغْرِي" رمزًا! وصارَ الكذبُ حيلةً ذكيّةً، والنّفاقُ دبلوماسيّةً راقيةً، والمُراوغةُ مهارةً قياديّةً. أمّا الصِّدقُ، فأضحى سذاجةً، والنّزاهةُ سُخفًا، والاستقامةُ مَرضًا عضالًا يجبُ التّخفيفُ من أعراضهِ!
المرايا لا تَكذبُ... فأنظُر! يا صاحِ، إنْ رأيتَ "الدُّغْرِي" يَعتلي منصّةً، أو يُكرَّمُ في مهرجانٍ، أو يُستقبلُ بحفاوةٍ كأنّهُ العائدُ من ساحاتِ الوغى، فلا تَتساءلْ كثيرًا
عن السّببِ، بل نَظَرَةٌ صغيرةٌ في المرايا تكفي؛ فقد نَكونُ نحنُ مَنْ صَنَعَهُ، وهَلَّلَ له، ورَفعَه فوقَ القاماتِ الحقيقيّةِ التي غابتْ، أو غيبت.
والحقُّ، أنّ "الدُّغْرِيّينَ" لا يُهزمونَ بالسّخريةِ وحدَها، ولا تُزاحُ أقنعتُهم بالرّثاءِ، بل لا بُدَّ من وعيٍ يُميّزُ الغثَّ من السّمينِ، ويُعيدُ الصّدارةَ إلى الحقِّ لا لِمن يَعرفُ كيفَ يَسرقُهُ.
فمَن يُنقذُ هذا الزّمانَ مِن دُغْرِيّيهِ؟!
ومَن يُنقذنا نحنُ من أنفسِنا؟!
د أجمل الطويقات
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
01-06-2025 08:55 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |