حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,15 مايو, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 3874

د.عاصم منصور يكتب: الكتاب الجيد في عصر الخوارزميات

د.عاصم منصور يكتب: الكتاب الجيد في عصر الخوارزميات

د.عاصم منصور يكتب: الكتاب الجيد في عصر الخوارزميات

14-05-2025 09:02 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.عاصم منصور
في واحدةٍ من أكثر مقولاته عُمقًا؛ يقول جورج أورويل: «الكتاب الجيد هو الذي يُخبرك بالذي تعرفه مُسبقًا».
قد تبدو هذه العبارة للوهلةِ الأولى متناقضة مع فكرة البحث عن الجديد في القراءة، لكنها في الحقيقة تحمل رؤية فلسفية دقيقة حول طبيعة المعرفة الإنسانية ودور الأدب في إعادة اكتشاف الذات. فالكتاب الجيد في فهم أورويل لا يقتصر على تقديم معلومات جديدة، بلْ يوقظ في القارئ إحساسا دفينا أو فكرةً كان يحملها في داخله دون أنْ يعيها تمامًا. فهو مرآة تعكس أعماقنا، وتُعيد ترتيب أفكارنا، وكأننا نعبد اكتشاف أنفسنا من جديد بين سطوره.


لكن في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، تغيَّرت طبيعة «الكتاب» و»القارئ» بشكل جذري، فلم يعُد الكتاب ورقيًّا أو حتى إلكترونيًّا بالمعنى التقليدي، بل أصبح منشورًا عابرًا أو تغريدة أو مقطع فيديو قصير. ولم يعدْ القارئ مُتلقِّيًا سلبيًّا؛ بلْ أصبح مُنتجًا ومُستهلكًا في آن واحد. وهنا تَبرُز مُفارقة عميقة؛ فوسائل التواصل الاجتماعي رغم ضجيجها وتنوُّعها، غالبًا ما تُحقق مَقولة أورويل بشكل أكثر تطرُّفًا، إذ إنها لا تُقدّم لنا الجديد بِقدرِ ما تُعيد تدوير ما نعرفه ونُؤمن به مُسبقًا، وتُغذِّي فينا الحاجةَ المستمرة لسماعِ صدى أفكارِنا.
فخوارزميات هذه الوسائل مُصَمَّمة بعنايةٍ لِتغذيةِ قناعاتنا، وتقديم محتوى يتوافق مع مُيولنا وأفكارنا؛ إذْ نميل بطبيعتنا إلى مُتابعة من يُشبهوننا، ونشارك ما يعبِّر عن هويَّتنا، وننخرط في دوائر مُغلقة من الأفكار المتشابهة. وهكذا يصبح «الكتاب الجيد» في زمن السوشال ميديا هو المنشور الذي يُؤكِّد ما نعرفه ونُؤمن به، ويمنحنا شُعورًا بالانتماء والاطمئنان؛ بلْ إننا نميل إلى رفْضِ أو تجاهلِ كل ما يتعارض مع قناعاتنا حتى لو كان يحمل قيمة معرفية حقيقية.
هنا تظهر بِوضوحٍ ظاهرة «فُقّاعَة المعلومات»، وهي إحدى أخطر نتائج تطوِّر الخوارزميات الرَّقمية، إذْ تقوم هذه الخوارزميات بتحليل سلوك المُستخدمين ومُيولهم وتفضيلاتهم، لتقدِّم لهُم مُحتوى يتوافق مع هذه التّفضيلات، وفي النَّتيجة يُصبحُ كلّ فرد يعيش في «فُقّاعَتهِ» الخاصَّة، مُحاطًا بأفكارٍ وآراءٍ تُشبه أفكارَه وآراءَه، ويكاد لا يرى أو يسمع إلاَّ ما يُؤكِّد قناعاته المُسبقة، ومع الوقت، يتحوَّل الفضاء الرَّقمي من ساحة حِوار وتبادُل إلى جُزُرٍ معزولة، كلُّ منها يُردِّد قناعاته دون حِوار حقيقي مع الآخر.
خُطورة هذه الفُقَّاعَة لا تكمنْ فقط في الانغلاق الذِّهني بلْ في تضييق أُفُق الحِوار المُجتمعي، وتفاقُم الاستقطاب، وانتشار الأخبار الزَّائِفة والمُضلِّلة؛ فكلُّ مجموعة تعيش في عالمها الخاص، وتسمع فقط صدى أصواتها، وتظن أنَّ ما تراه وتسمعه هو الحقيقة المُطلقة، وهذه الفُقّاعَة لا تتشكّل فقط بفعل الخوارزميات بلْ أيضًا بسبب ميْل الإنسان الطّبيعي إلى تجنُّب ما يُزعجه أو يُخالف مُعتَقداته. ومع الوقت؛ يُصبح من الصّعب علينا تقبُّل أو حتى الاستماع إلى وِجهات النَّظر المُختلفة، ويبدأ في النَّظر إلى الآخر المختلف بِرَيْبة أو عداء.
ربَّما علينا اليوم أنْ نُعيد قِراءة مَقولة أورويل في ضوء عصرِنا الرَّقمي؛ فالكتاب الجيِّد ليس فقط ما يُخبرنا بما نعرفه بلْ ما يوقظ فينا أسئلة جديدة حول ما نعرفه، ويدفَعُنا إلى مُراجعة مُسَلَّماتنا. فوسائل التَّواصل الاجتماعي تملكُ القدرة على أنْ تكون هذا «الكتاب الجيِّد» إذا أحسنا استخدامها، وفتحنا نوافذنا على المختلف، وسمحنا لأنفسنا بالخروج من دائرة التكرار إلى فضاءِ الاكتشاف؛ فالمعرفةُ الحقيقيةُ لا تكتملْ إلا حين نسمح لأنفسنا بسماعِ ما لا نعرفه، أو حتى ما لا نُحب سماعه، ونمنح عقولنا فرصة للنُّمو خارج حدود الفُقَّاعَة.











طباعة
  • المشاهدات: 3874
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
14-05-2025 09:02 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
لا يمكنك التصويت او مشاهدة النتائج

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم