30-12-2025 10:30 AM
بقلم : د.عاصم منصور
تفاجأ العالم خلال الأسابيع الماضية بسيلٍ من الصور والوثائق المُسرَّبة من ملفات قضية جيفري إبستين، بعد أن وافق الكونغرس الأميركي على رفع جانب من السريّة التي ظلت مضروبة حولها لسنوات طويلة. وفجأة وجد الرأي العام العالمي نفسه أمام مادة صادمة، وصور موثَّقة، وأسماء لامعة في عالم السياسة والمال والإعلام، وتفاصيل دقيقة عن شبكة واسعة من الاستغلال الجنسي المنظّم للقصر من الجنسين. ولم تعد الحكاية مجرّد إشاعات عن تاجر جنس نافذ، بل وثائق رسمية تُتداول في الإعلام، وتُناقش في الكونغرس، وتتحول إلى محور سجال عالمي، كاشفةً حجم الانحطاط الذي يمكن أن تبلغه نخب يُفترض أنها تمثّل قمّة التحضّر والحداثة.
وبذلك لم يعد ملف إبستين مجرد فضيحة أخلاقية أو مادة إعلامية مثيرة بل مرآة تعكس أزمة أعمق في قلب النموذج الحضاري الغربي المعاصر. فنحن هنا أمام واقعة تتقاطع فيها السلطة والمال، والجنس والابتزاز في مشهد واحد؛ لتضعنا أمام سؤال جوهري، أيّ نوع من البشر تُنتجه حضارة حولت الجسد إلى سلعة، والرغبة إلى حق مطلق، وخلعت عن القيم الروحية والأخلاقية أي سلطة مُلزِمة باسم الحرية الفردية والتقدّم؟
تكشف هذه الفضيحة أن الانحراف الجنسي ليس حكرًا على ثقافة بعينها، ولا على مستوى تعليمي أو اجتماعي؛ فالمتورطون هنا من خريجي أرقى الجامعات، ومن نخب السياسة والمال والإعلام، مما فضح السردية الغربية التي تحاول حصر مثل هذه الممارسات بالمجتمعات «المتخلفة»، فالقضية ليست قضية شرق وغرب بل قضية منظومة قيمية متوحشة في التعامل مع الشهوة والسلطة والإنسان، فحين تبلغ الحضارات طور الترف المادي المفرِط، دون أن يواكب ذلك توازن روحي وأخلاقي، عندها يصبح الإنسان أكثر قابلية للانزلاق إلى هذا النوع من الاستباحة المنظمة.
كما تفضح ملفات إبستين قدرًا كبيرًا من النفاق الفكري الغربي الذي مورس طويلًا والذي حاول تسويق فكرة أن الكبت الجنسي الذي يعاني منه الشرق هو أصل التحرّش والانحراف، وأن الحرية المطلقة للجسد، هي التي تُنتج إنسانًا أكثر تهذيبا وانضباطًا. بينما نرى هنا أن أسوأ أشكال الاستغلال الجنسي للأطفال قد مورست في قلب هذا النموذج المفتوح نفسه، وبيد نخبٍ صُنعت في بيئته وتغذّت على قيمه.
المفارقة أن الأصوات التي كانت تسارع إلى إدانة الإسلام وقيمه عند كل حادثة انحراف في الشرق، تلوذ الآن بالصمت، أو تحصر النقاش في دائرة الفساد الفردي، رافضةً مساءلة المنظومة القيمية التي سمحت بذلك والنموذج الحضاري الذي سمح بتحويل أجساد الضعفاء إلى حقل تجارب لنزوات أصحاب السلطة والمال، فلو أن فضيحة بهذا الحجم وقعت في دولة عربية أو إسلامية، لتم استثمارها في جلد الدين والمجتمع والتاريخ برمّته، وأنا هنا لا أبريء مجتمعاتنا من الفساد الأخلاقي، ولا أدعي لها العصمة فلدينا مصائبنا التي قد لا تقل بشاعة عن القضية قيد البحث فالانحراف ملازم للطبيعة البشرية في كل زمان ومكان.
لا ينبغي أن يُقرأ زلزال ملفات إبستين كفضيحة عابرة، بل كدعوة لإعادة النظر في معنى التحضر نفسه، وفيما إذا كان مقصورا على تراكم الثروة والتقنية والحريات الجسدية، أم هو قبل ذلك وبعده حفظ لكرامة الإنسان وحدّ لجبروت الشهوة والسلطة معًا؟ إن السؤال الحضاري الحقيقي الذي تطرحه هذه الفضيحة ليس في عدد المتورطين وأسمائهم؟، بل حول منظومة القيم التي يجب تحكم علاقتنا بالجسد، وبالآخر، وبالسلطة.
ما أظهرته الصور المسربة من ملفات إبستين لم يقتصر على عري الأجساد بل عري المنظومة الأخلاقية الغربية برمتها.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-12-2025 10:30 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||