11-12-2025 08:26 AM
بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
حين يقترب الشتاء… ويقترب معه امتحان الرحمة
تحذيرات الطقس هذه المرة مختلفة… وما يكشفه المنخفض سيحرك مشاعرك
ليس الشتاء مجرد فصل يغيّر ملامح الطبيعة، أو منخفض جوي يقترب كل عام ليزور مدننا وقُرانا. الشتاء حالة إنسانية كاملة، مرآة تُظهر ما في داخلنا، ونافذة واسعة على معنى الاستعداد، وعلى قيمة أن نكون مجتمعًا واحدًا مهما اختلفت ظروفنا.
في الأيام الأخيرة، ونحن نتابع أخبار المنخفض الجوي القادم، تتسارع في داخلنا أسئلة لا تتعلق بالطقس وحده، بل بما هو أعمق: كيف نستقبل نحن كبشر هذا التغيّر؟ وكيف تتهيأ قلوبنا قبل بيوتنا؟
منظر الغيوم وهي تتراكم فوق سماء الأردن يُشبه لحظة صمت تسبق موسيقى عظيمة. تلك الموسيقى التي يعزفها المطر عندما يلامس الأرض للمرة الأولى، فيوقظ فيها رائحة الطين، ويعيد ترتيب المشهد من جديد. البعض يرى في هذه اللحظة جمالًا خالصًا، والبعض الآخر يجد فيها بابًا للذكريات، وآخرون يعتبرونها بداية دورة جديدة من الأمل. لكن خلف هذا الجمال، ثمة حكايات أخرى تُكتب في الخفاء… حكايات لا يسمعها إلا من يملك قلبًا يلتقط التفاصيل التي خلف الزجاج.
نحن نتهيأ… نغلق النوافذ بإحكام، نفحص التدفئة، ونراجع تفاصيل صغيرة لضمان الراحة. ومع ذلك، لا بد أن نتوقف قليلًا ونسأل أنفسنا: كم من الناس لا يملكون هذه الرفاهية البسيطة؟ كم من العائلات تستقبل ليالي الشتاء بلا نوافذ محكمة، بلا صوبة، وبلا سقف يكفي لصدّ المطر؟
في هذه اللحظة، يصبح المنخفض القادم امتحانًا غير معلن لإنسانيتنا.
هناك، على أطراف المدن، في المخيمات والخيم التي لا تقوى على مواجهة رياح ديسمبر، يعيش أناس يستقبلون البرد بشجاعة تفوق كل استعداداتنا. أطفال يصحون ليلًا على صوت الريح، لا لأن الصوت يخيفهم فحسب، بل لأن الخيمة قد تتحرك فوق رؤوسهم في أي لحظة. أمهات يراقبن قطرات الماء وهي تتسلل من فتحة صغيرة في السقف، يلهثن خلفها بقطعة قماش أو بطانية قديمة. رجال يواجهون عجزهم أمام أسرة تحتاج دفئًا لا يملكون توفيره. هؤلاء لا يعبّرون عن مأساتهم بالكلام، ولا يطلبون الكثير؛ يكفيهم أن تمر الليلة دون أن يُصيب البرد أحد أطفالهم بالمرض.
"في كل غيمة، فرصة للرحمة؛ وفي كل قطرة مطر، درس للحياة"
هؤلاء الناس هم حجر الميزان في مفهوم الاستعداد الحقيقي. وجودهم يجعلنا نعيد النظر في معنى الطمأنينة.
فالاستعداد ليس مجرد أغطية إضافية أو صوبة جديدة، بل استعداد روحي: أن نتذكر أن الطقس لا يؤثر علينا جميعًا بالطريقة نفسها، وأن بعض القلوب تواجه الشتاء بلا دروع.
ومع ذلك، فإن ما يميّز مجتمعنا هو أنه لا يترك أحدًا وحيدًا في مواجهة الأيام الصعبة. في كل موسم شتاء، نرى صور التضامن تظهر كما تظهر الغيوم: ببطء أولًا، ثم بكثافة. نرى عائلات تتبرع بملابس، وشبابًا يجمعون بطانيات، ومؤسسات تُعلن حالة جاهزية، وقلوبًا كثيرة تفتح أبوابها لمن يحتاج. هذا التفاعل ليس حدثًا عابرًا، بل هو جزء من روح الأردن… روح لا تتغير مهما تغيّر الطقس.
وهنا تبرز الرسالة الإيجابية التي يأتي بها الشتاء: أن الخير موجود، وأن التعاون ليس ترفًا بل ضرورة، وأننا نكبر حين نحسّ بالآخرين.
حين نُشعل المدفأة، وننظر إلى الضوء المتوهج الذي يملأ البيت دفئًا، ينشأ في داخلنا شعور خفيف بالامتنان. وهذا الشعور يجب ألّا يبقى داخليًا فقط، بل يتحوّل إلى فعل. لأن الرحمة ليست كلمة تُقال، بل خطوة تُتخذ، وغياب خطوة واحدة قد يعني بردًا لا يُحتمل لعائلةٍ ما.
ومع أن المنخفضات الجوية تحمل معها أحيانًا القلق، إلّا أنها تحمل أيضًا فرصة ذهبية. فرصة لأن نعيد ترتيب علاقتنا مع الحياة، وأن نتذكر أن أقوى ما يمكن أن نملكه هو قدرتنا على أن نساند بعضنا.
الطبيعة لا تسألنا عن مستوى دخلنا أو عن شكل بيوتنا؛ تعبر فوق الجميع. وهكذا نحن أيضًا يجب أن نكون: نعبر فوق الفروق، ونصل إلى المشترك الإنساني الذي يوحّدنا.
الشتاء، رغم برودته، يعلّمنا شيئًا مهمًا: أن أقسى الظروف قادرة على خلق أدفأ الروابط.
تخيّل أن الأمطار التي تقلق البعض، هي نفسها التي ينتظرها آخرون بفارغ الصبر لأنها تمنحهم شعورًا بأن الحياة لا تزال تتحرك. وتخيّل أن الرياح التي نسمع صوتها من خلف زجاج مغلق، يسمعها آخرون من خلف قماش مهترئ يرفرف طوال الليل.
ورغم هذا الفارق الكبير في الظروف، يبقى الأمل مشتركًا.
فالضعفاء رغم قسوة ما يعيشونه غالبًا ما يملكون من الرضا والقناعة ما يفتقده كثيرون ممّن يعيشون في ظروف أفضل. وربما لهذا السبب يلمس حديثهم القلب بسرعة… لأنهم يعيشون الحياة بصفائها، وبصدق تجربتها، لا بترف تفاصيلها.
وفي كل منخفض يمرّ، نكتشف أننا أقوى مما نظن، وأن ما يجمعنا كبشر أكبر بكثير مما يفرقنا.
نكتشف أن المطر قادر على غسل شوارعنا… وربما أرواحنا أيضًا. قادر على أن يعيدنا إلى بعضنا، ويضعنا أمام مسؤولياتنا، ويذكّرنا بأننا مهما انشغلنا بظروفنا الشخصية، هناك دائمًا من ينتظر كلمة، مساعدة، سترًا، أو حتى دعوة صادقة في ظهر الغيب.
وهكذا يصبح المنخفض الجوي القادم ليس حدثًا نتابعه في نشرات الأخبار، بل درسًا صغيرًا عن الحياة. درسًا في الرحمة، في الوعي، وفي الامتنان.
فالعطاء مهما كان بسيطًا يصنع فرقًا. وربما الدفء الذي يصل إلى أحد المحتاجين اليوم، سيعود إلينا يومًا ما بصورة لا نتوقعها، لأن الخير لا يضيع.
وفي نهاية الأمر، سيعبر هذا المنخفض كما عبرت عشرات قبله.
ستنقشع الغيوم، وتعود الشمس، وتستقر الحياة من جديد. لكن ما سيبقى ليس الطقس… بل أثره في قلوبنا. سيبقى مدى استعدادنا للخير، ومدى قدرتنا على رؤية الآخرين بعيون أكثر رحمة.
ففي زمن تتغير فيه الفصول، تبقى الرحمة وحدها ثابتة.
هي الدفء الحقيقي…الذي لا تصنعه المدافئ، بل تصنعه القلوب.
فلنستغل هذه اللحظات، ولنمد يدنا للآخرين كما نمدها لأهلنا، فالشتاء يعلمنا أن القلب هو الدفء الحقيقي.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-12-2025 08:26 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||