حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأربعاء ,19 نوفمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 6332

م.صلاح طه عبيدات يكتب: ما بعد غزة

م.صلاح طه عبيدات يكتب: ما بعد غزة

م.صلاح طه عبيدات يكتب: ما بعد غزة

19-11-2025 08:31 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : م. صلاح طه عبيدات
ما بعد غزة… ليس مجرد فصل جديد في التاريخ، بل نقطة تحوّل تعيد صياغة منظومة الوعي العالمي، وتحرك طبقاتٍ عميقة في بنية السياسة والأخلاق والحضارة. فما ظهر للعيان لم يكن حدثاً عابراً، بل لحظة انكشاف كبرى، تهاوى فيها البناء الرمزي للحضارة الغربية كما تُهدم جدران ديكور مسرحي عند أول ريح.

لقد عاش العالم لعقودٍ طويلة أسطورة “النموذج الغربي” باعتباره الذروة الأخلاقية والسياسية. تحوّل هذا النموذج إلى سلطة رمزية تمارس سطوتها على شعوب وقادة رأوا في تقليده خلاصاً، وفي التماهي معه طريقاً مختصراً للحداثة. غير أنّ غزة جاءت لتعيد طرح السؤال الذي تهرّبت منه الدول طويلاً:
هل الحداثة قشرةٌ تلمع، أم جوهرٌ يُختبر في لحظات الاختبار؟

في سياق الاستلاب الحضاري، هرولت كثير من الأنظمة نحو الغرب، تلهث خلف تصنيفات القوة الناعمة، وتتجمّل بخطابات عن التسامح والانفتاح لتنال اعتراف الآخر، لا لتستجيب لاحتياجات مجتمعها. تحوّلت القيم إلى سلعٍ سياسية، والخطاب إلى أداة تزيين، والهوية إلى عبءٍ قابل للتعديل بحسب مزاج المؤسسات الغربية ومقاييسها.

لكن ما بعد غزة جاء مختلفاً: إذ لم يجرِ اختبار الغرب على أساس ما يقوله، بل على أساس ما يفعله. وفي لحظة الحقيقة، انكشفت الفجوة بين الخطاب والقيم، وبين ادعاء الإنسانية وممارسة القوة. لم يعد بالإمكان تغليف العنف بورق الخطابات، ولا تبرير قتل المدنيين تحت مظلة “الحق في الدفاع عن النفس”، ولا إخفاء التحيّز الأخلاقي الذي ظهر بفظاعته على الساحة الدولية.

غزة لم تُسقط القناع عن الغرب فحسب، بل كشفت أيضاً عمق أزمةّه الوجودية: حضارة تملك القوة المادية الهائلة لكنها فقدت قدرتها على إنتاج معنى. حضارة تُصدّر صور الرفاه، لكنها عاجزة عن توفير الروح التي تجعل الرفاه ذا قيمة. وحين تنتهي حياة رموزها بجرعات زائدة، ندرك أنّ الأزمة ليست في العالم، بل في النموذج ذاته.

في المقابل، قدمت غزة نموذجاً مغايراً، نموذجاً سياسيّاً وروحيّاً معاً: إنسانٌ قادر على تحويل الألم إلى طاقة، والخسارة إلى صمود، والإيمان إلى هندسة أخلاقية تُبقي المجتمع متماسكاً رغم انهيار الحجر. وهذا ما جعل “الرضا” الذي أظهره أهل غزة ليس مجرد حالة إيمانية، بل ظاهرة سياسية أربكت المراكز البحثية وغرف صناعة القرار، لأنها تنشئ جيلاً لا يُهزم بمعايير القوة التقليدية.

ما بعد غزة… بدأت شرعية “السردية الغربية” بالتآكل. وبدأت معايير القوة تُعاد صياغتها. أصبح الرأي العام العالمي أكثر استقلالاً عن الإعلام التقليدي، وأكثر قدرة على رؤية الظلم دون وساطة. وظهرت بوادر تحوّل في المزاج الدولي، حتى اضطر الناطق باسم المؤسسة العسكرية للكيان المحتل إلى التحذير من إظهار الهوية في العلن… وهذه ليست مجرد واقعة يومية، بل مؤشر سياسي بالغ الدلالة: فقدان التعاطف العالمي ومعه الركيزة المعنوية للاستقواء.

أما على مستوى السياسات الدولية، فإن ما بعد غزة سيترك آثاراً طويلة المدى:

انهيار الهيمنة الأخلاقية للغرب سيهز الطريقة التي تدار بها التحالفات.

تراجع الثقة بالمؤسسات الدولية عندما فشلت في حماية أبسط حقوق البشر.

تصاعد مطالبات الشعوب بإعادة النظر في علاقاتها بالقوة الغربية.

وتعاظم دور الشعوب مقارنة بالنخب السياسية، خاصة في العالم العربي.


إنّ ما جرى لم يكن مجرد حرب، بل لحظة كشف، لحظة انعطاف، لحظة إعادة توازن روحي وسياسي في العالم. الغرب لم يُهزم عسكرياً، لكنه خسر سلاحه الأخطر: شرعية النموذج الأخلاقي. وغزة لم تنتصر سياسياً فقط، بل أعادت للعالم معياراً بسيطاً ومنسياً: أن الإنسان حين يتمسك بمعناه، يصبح أقوى من كل الأدوات التي تنتجها الحضارات المنفصلة عن الإنسان.

ما بعد غزة… عالم لن يعود كما كان،
وسياسة لن تُدار بالطريقة ذاتها،
وحضارة أُعيد اختبار معدنها الحقيقي، فصدأ ما كان يلمع…
وبدأ ما كان يُحاصَر بالضعف يشعّ بقوةٍ لا تُقاس.











طباعة
  • المشاهدات: 6332
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
19-11-2025 08:31 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل يرضخ نتنياهو لضغوط ترامب بشأن إقامة دولة فلسطينية؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم