17-11-2025 08:36 AM
بقلم : جهاد المنسي
تشرين ليس مجرد شهر؛ تشرين حالة وجدانية تجمع بين وداع صيف واستقبال الشتاء، وفي تشرين نستعيد ذاكرة عمان بطرقها وازقتها وادراجها، وانت تمشي في شوارعها، وخاصة في وسط البلد، هناك حيث رائحة القهوة، وأصوات الباعة، وخطوات عابرة تحمل شيئًا من الماضي وشيئًا من الحاضر الذي لا يشبه ما كان.
عندما تبدأ حبات المطر بخفة تضرب أرصفة وسط البلد، تشعر بأن السماء تمارس طقوس الود، وأن الشتاء يقترب ببطء والمدينة تستعد لمرحلة جديدة، وبطبيعة الحال ستجد هناك مع اول «شتوة» من يسمعك صوت فيروز يتسلل من محل قديم، أو من سيارة عالقة في الأزمة، أو من مقهى ما يزال يحتفظ بمذياعه العتيق؛ تسمع فيروز وهي تصدح «رجعت الشتوية» صوتها ينساب وسط الضجيج، يلمّع الذاكرة، ويعيد للمدينة شيئًا من هيبتها الأولى.
نعم حقنا ان نستذكر ان وسط البلد في الماضي، كان بمثابة لوحة أكثر وضوحًا؛ الناس كانوا يتحركون على مهل، يجلسون على الأرصفة، يتبادلون التحايا، يعرف الواحد منهم الاخر؛ تشعر بهم قبل أن تراهم؛ كانت العلاقة بين الناس واضحة بسيطة؛ احترام، معرفة، وضحكة حقيقية لا تُشترى.
اليوم، تغيّر كل شيء؛ الوجوه كثيرة، والسرعة صارت قانونًا؛ تمرّ بجانب ألف شخص ولا تتذكر ملامح أحد؛ تبحث عن (أبو فلان) صاحب محل الفول فلا تجده، أو تجده مشغولًا بحساب إلكتروني، لا بقدرة فول مسلوقة بعناية، الفول لم يعد فول الجمعة، والكنافة صارت «مودرن»، محشوة بمكسرات كثيرة ونكهات غريبة، بينما نحن نشتاق لكنافة بسيطة تُصنع على حجر ساخن وتُقدّم بكثير من الحب.
ليس الطعام وحده تغيّر، حتى النقاش السياسي أصابه التغيير؛ في الماضي، كان الناس يجلسون في مقاهي وسط البلد تلك التي كانت تجمع الشيوخ والشباب، اليساري مع الإسلامي، والقومي، والوسطي والمحافظ وتسمع نقاشات ترتفع وتخفت، لكنها لا تُفسد الودّ؛ كان الخلاف آنذاك جزءًا من الحياة، والاتفاق يأتي مع فنجان قهوة وابتسامة ونارجيلة؛ أما اليوم، فالنقاشات السياسية تشتعل على «السوشال ميديا» أكثر مما تشتعل على الطاولات، وأحيانًا يصبح الخلاف استنزافًا بدل أن يكون اختلافًا.
مهلا.. رغم ذاك فإن وسط البلد لا يموت ويبقى يحمل رائحة الماضي؛ فعندما ينزل المطر، وتسمع فيروز تغني «رجعت الشتوية»، يعود كل شيء إلى مكانه الطبيعي؛ فتبقى عمان مدينتنا التي نحب ونعشق، ونهيم بها وبطرقها، تبقى عمان مدينة لها قلب نابض، وذاكرة تحفظك، وزوايا صغيرة ما تزال تؤمن بأن الحياة ليست سباق سرعة.
وسط البلد تغيّر، نعم؛ لكن الروح ما تزال هناك؛ في رائحة الخبز عند الفجر، في خطوات رجل يمشي بيده مسبحته، في انتظار امرأة عند محل كنافة تنتظر الدور لتشتري للأبناء؛ في ضحكة شاب يطالع الوجوه؛ ورغم ان الاختلاف بات موضة العصر إلا انه في عمان حيث وسط البلد ما يزال النقاش الذي يبدأ سياسيًا ينتهي حبيا مهما اختلفت الآراء.
تشرين أعاد ترتيب الأشياء، وحبات المطر اللؤلؤية تضيء ذاكرة الزمان وتربط بين ماضٍ نشتاق له، وحاضر نحاول التأقلم معه؛ فتبقى عمان هي عمان ووسط البلد هو ذاته نلمس التغير ولكنا نحب المكان، فعمان تكبر تتوسع، لكنها لا تخون جذورها وتبقى وفية لجبالها السبعة وقلعتها ومدرجها.
فما زالت روح عمان تتواجد في الطرقات، في الزوايا، في المقاهي القديمة التي ما تزال تحتفظ برائحة الزمن، في مقاعد المدرج الروماني عند الغروب، في عتبات المساجد، وفي خطوات كبار السن الذين ما يزالون يعرفون ماذا يعني أن تمشي بلا عجلة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-11-2025 08:36 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||