16-11-2025 03:45 PM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
ليست أطول المسافات تلك التي تفصل بين المدن والبلدان، بل تلك التي تمتد في أعماق الإنسان نفسه، بين مناطق الوعي والشعور.
فثمة طريق داخليّ طويل يبدأ من العقل، حيث تنشأ الفكرة وتُصاغ الحقيقة، ويمرّ بـ الفؤاد، حيث تتحول الفكرة إلى شعور حيّ، ثم ينتهي إلى القلب، حيث تكتمل التجربة وتصفو المعاني في أعمق صورها.إنها رحلة الإنسان في اكتشاف ذاته: من الفهم إلى الإحساس، ومن الإحساس إلى الإيمان، ومن المعرفة إلى الصدق.فالعقل: موطن الفكر ومرآة الوعي، العقل هو البوابة الأولى التي يدخل منها الإنسان إلى العالم. به يفسّر، ويحلّل، ويقارن، ويُقيم المعايير. لكن العقل، على دقته وعمقه، يبقى مجالًا باردًا محايدًا، لا ينبض بالانفعال ولا يتلوّن بالعاطفة. إنه يرى الأشياء كما هي، لا كما تُحسّ. ولهذا فإن الانتقال من العقل إلى الفؤاد ليس خيانة للمنطق ، بل اكتمال للمعرفة؛ إذ لا تكتمل الفكرة حتى تُعاش وجدانًا كما تُفهم فكرًا. اما الفؤاد: فهو حرارة الشعور وصدق التجربة، حين نغادر منطقة العقل إلى فضاء الفؤاد،نغادر التحليل إلى المعايشة، والمعرفة إلى الوجدان. اما الفؤاد وهو موطن الانفعال الإنساني، حيث تتجلّى التجربة بكل حرارتها وصدقها. قال تعالى:“ما كذب الفؤاد مارأى'[النجم:11]، في إشارة إلى أن الفؤاد يرى بعين الإحساس، لا بعين الفكر وحده.
وفي علم النفس الحديث، يوازي الفؤاد ما يُعرف بـ الذكاء العاطفي؛ القدرة على فهم المشاعر وإدارتها والوعي بها، لكن الفؤاد على صدقه، يبقى منطقة مضطربة متقلّبة، يشتعل سريعًا وينطفئ سريعًا، وتتنازعه الرغبات والمخاوف.
ومن هنا تبدأ المسافة الأطول: الرحلة من الفؤاد إلى القلب، القلب: موطن الصفاء والبصيرة. واللقلب، في معناه الأعمق، ليس مجرد مركزٍ للعاطفة، بل مركز الحكمة والإدراك الصافي. فإذا كان الفؤاد يستجيب لما يثيره العالم الخارجي من انفعالات، فإن القلب يحكم بما يختزنه من وعيٍ وإيمان.
القلب هو البصيرة التي تُهذّب الشعور وتوجّهه نحو الصواب، هو اللحظة التي يلتقي فيها العقل بالشعور،والفكر بالإخلاص، والعاطفة بالحكمة. لقد أثبتت دراسات علم الأعصاب العاطفي أن القلب يشارك الدماغ في صياغة التجربة الإنسانية؛ إذ يرسل إشارات عصبية تؤثر في مراكز الانفعال واتخاذ القرار. وهذا يوافق ما تؤكده الرؤية الروحية: أن القلب ليس عضوًا ماديًا فحسب، بل مستودع الإنسان الحقيقي، الذي إذا صلح، صلح الجسد كله. بين الفهم والإحساس والإيمان، تُظهر هذه الرحلة الداخلية أن الإنسان لا يُدرك العالم بعقله فقط، ولا يعيشه بفؤاده وحده، بل يكتشفه بقلبه حين تتناغم الفكرة مع الإحساس.
فالعقل يمنحنا المعرفة، والفؤاد يمنحنا الحياة، والقلب يمنحنا الصدق والاتزان.
ومن هنا كانت العودة من الفؤاد إلى القلب هي أطول المسافات وأشقّها، لأنها رحلة نحو الصفاء بعد اضطراب، ونحو النقاء بعد امتلاء، ونحو الحقيقة بعد العاطفة.
وعليه اطول المسافات التي عرفتها في حياتي ليست تلك التي تُقطع بالأقدام، بل تلك التي تُقطع بالبصيرة. هي المسافة التي تفصل بين العقل والفؤاد، والفؤاد والقلب؛
بين ما نفكر به، وما نشعر به، وما نؤمن به حقًّا. وحين يقطع الإنسان هذه المسافة كاملة، يصبح أكثر وعيًا بذاته، وأكثر رحمة بالعالم، لأن من يصل إلى قلبه بحق، يصبح قادرًا على أن يحبّ ويعقل ويُدرك بصفاءٍ واحدٍ لا يتناقض.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
16-11-2025 03:45 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||