15-11-2025 08:36 PM
بقلم : عمر المهيدات
الكاتب: عمر محمود المهيدات
إن العلاقة بين وعي الأمة وممثليها ليست مجرد علاقة إجرائية تُختزل في ورقة اقتراع، بل هي وشيجةٌ عضوية معقدة، أشبه بالجدل العميق بين الأصل وصورته. فمجلس النواب، في جوهره، ليس سوى بلورةٍ ماديةٍ، وانعكاسٍ صادقٍ، لما استقر في وجدان الأمة من قيم، وما ساد في بنيتها النفسية من توجهات. وحين يُطلب من هذا المجلس أن ينهض بمهامه الدستورية الجسيمة، المتمثلة في التشريع بوصفه هندسةً لمستقبل الجماعة، والرقابة بصفتها سيفًا مسلطًا على تغوّل السلطة التنفيذية، فإن هذا المطلب يصطدم حتمًا بطبيعة "السيكولوجيا المجتمعية" التي أفرزته أولًا.
عندما يتشظى الوعي الجمعي، وتتغلب سيكولوجيا الولاءات الدنيا على سيكولوجيا المواطنة العليا، يتحول المشهد الانتخابي من منافسةٍ على البرامج والرؤى إلى مزادٍ علنيٍّ للهويات الفرعية. يذوي الانتماء للوطن الجامع، ليحل محله الانكفاء على القبيلة، أو التمحور حول العشيرة، أو الارتماء في أحضان نائب الخدمات الذي يُتقن فن المنفعة الفردية العاجلة على حساب المصلحة الوطنية الآجلة. هذا الفرز، القائم على غريزة الاستقواء بالعصبية أو البحث عن الحماية الفردية، هو أول مسمار يُدَق في نعش المجلس القوي، لأنه يرسل إلى قبة البرلمان نوابًا مدينين في وجودهم لولاءات ضيقة، لا لبرامج وطنية شاملة.
هذه التركيبة النفسية الهشة للمجتمع تُنتج بالضرورة مجلسًا عاجزًا عن التشريع الحقيقي. فالتشريع، في أنقى صوره، هو عملية فكرية استراتيجية ترسم ملامح الغد وتضع الأطر الضابطة لحركة المجتمع. لكن المجلس الذي قام على المحاصصة النفسية والعشائرية، يتحول فيه فعل التشريع من صناعة قوانين إلى تسوية مصالح. تصبح القوانين سلعة للمقايضة، وتُفرَّغ من مضامينها الكبرى لتصبح مجرد نصوصٍ باهتة، تراعي الخواطر الفئوية، وتتحاشى المساس بمراكز القوى التقليدية. وهكذا، يُصاب نبضُ التشريع بالعقم، وتُوأَد القوانين المصيرية قبل ولادتها، لأن النواب أنفسهم هم حراس لتلك المصالح الضيقة التي يُفترض بالقانون أن يُهذّبها.
أما في ميدان الرقابة، فإن الكارثة تبلغ مداها. فالرقابة تتطلب استقلالًا في الإرادة، وشجاعة في الموقف، وقدرة على كبح جماح السلطة التنفيذية. لكن النائب الذي وصل عبر سيكولوجيا الخدمة هو، في حقيقته، أسيرٌ لالتزاماته المسبقة. كيف لرقيبٍ أن يُسائل وزيرًا وهو مدينٌ له بخدمةٍ لجمهوره؟ وكيف له أن يفتح ملفًا وهو يعلم أن ولاءه العشائري أو القبلي يمنعه من ذلك؟ هنا، تفقد الرقابة أنيابها، وتتحول أدواتها الدستورية - من سؤال واستجواب وطرح ثقة - من أسلحة لحماية الصالح العام إلى لفظٍ أجوف أو، في أحسن الأحوال، إلى أوراق للمناورة السياسية والابتزاز المتبادل، فتصبح الرقابة ديكورًا يزين مشهد الخلل، لا أداة لتقويمه.
إن صناعة مجلسٍ قويٍّ، قادرٍ على حمل أمانتي التشريع والرقابة، لا تبدأ من تعديل القوانين الانتخابية، مع أهميتها، ولا بإيجاد أحزاب سياسية، مع ضرورتها، بل تبدأ من ترميم النفس المجتمعية ذاتها. إنها عملية تتطلب الانتقال بالوعي الجمعي من حالة التشرذم الغريزي إلى حالة الوحدة العقلانية، ومن سيكولوجيا الحاجة الفردية إلى سيكولوجيا الواجب الوطني. فالمجلس، في نهاية المطاف، هو نحن؛ هو مرآة دقيقة لا تكذب، تعكس قامة وعينا، أو قِزَميّة ولاءاتنا الفرعية.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-11-2025 08:36 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||