15-11-2025 12:06 PM
بقلم : م. صلاح طه عبيدات
يبدو أن الثقافة — كما اكتشفتُ متأخرًا وأنا أقف مرتبكًا أمام شباك المركز الأمني — ليست تلك التعويذة التي كنت أظن أنني أحملها في جيبي الخلفي. ليست بطاقة بلاستيكية عليها صورتي الباهتة، بل هي ذلك الشيء الذي يتفلّت من بين أصابعنا كلما حاولنا الإمساك به، كأن الكون نفسه يغمز لنا من بعيد ويقول: جرّبوا مرّة أخرى… إن استطعتم.
ذهبتُ لأبلّغ عن "فقدان الهوية". سألني رجل الأمن:
– ما شكلها؟
أجبته بثقة مهزوزة:
– ليست لها هيئة ثابتة… تتأرجح بين الماضي الذي يصرّ على ملاحقتي، والمستقبل الذي يتدلّل ولا يعطيني موعدًا.
نظر إليّ كما لو أنني أحاول تهريب فلسفتي الوجودية عبر مكتب رسمي لا يحتمل هذا النوع من الأسئلة.
الهوية — كما فهمت بعد أن أعادوني بختم أحمر قائلين المحضر أُغلق — ليست قالبًا تصبه الدولة ولا رقمًا وطنيًا محفوظًا في الأرشيف. إنها صراع مفتوح، مطاردة طويلة لظلّ يسبقني دائمًا بخطوة، ويترك على جدار الزمن عبارة ساخرة: "كنتُ هنا… ولم تلحق بي".
وحين اقتحمت التكنولوجيا حياتي كفيضان بلا سدود، أدركت أنها لا تعيد لي هويتي، بل تمنحني ارتباكًا إضافيًا:
هل أنا من يضغط على الأزرار أم أن الآلات تضغط عليّ؟
صار العالم صاخبًا، والشاشات كثيرة، واليقين نادرًا… حتى خُيّل إليّ أن بوصلة الهوية باتت تعمل على بطارية منخفضة.
وفي الأزمات، حين ترتجف الدولة وتتوتر أرواح المجتمع، اكتشفت أنني لا أفقد هويتي فقط، بل أفقد القدرة على تذكّر كيف فقدتها أصلًا. الأمن الثقافي؟ نعم… كلمة كبيرة، لكنها في الواقع محاولة شجاعة — أو بائسة — كي لا نذوب في هوية أحد لا يعرفنا هو ولا يعنينا.
وحين سألتُ رجل الأمن نصيحة لاستخراج هوية جديدة، قال بجديّة رسمية:
– الأمر يحتاج لإرادة… وإجراءات.
ضحكتُ مرارةً. أيّ هوية تلك التي تحتاج أوراقًا، لجانًا، وربما اجتماعًا وزاريًا كي تعود إلى جيبي؟
أما المجتمع المثقّف، ذلك الذي يتحدثون عنه كثيرًا، فهو المجتمع الذي يمتلك شجاعة النظر إلى نفسه بلا أقنعة. وأنا، في تلك اللحظة، كنت أفتّش عن قناع يمنحني بعض الثبات وأنا أوقّع على استمارة "ضياع الهوية" بخطّ يشبه خطّي… أو ربما يشبه شخصًا آخر فقد نفسه قبلي.
وفي النهاية، اكتشفت الحقيقة الأكثر سخرية: الهوية ليست ما نحتفظ به في المحفظة، ولا ما نختمه في المراكز الأمنية، ولا حتى ما نبحث عنه حين نضيع.
الهوية هي تلك الحيرة التي تلازمنا… تلك المسودة الناقصة التي نسمّيها — على عجل — "نحن".
وبما أن المحضر أُغلق… فسأستصدر هوية جديدة.
هوية لا تعِد بالثبات، ولا تدّعي اليقين، بل تقبل الضياع كجزء من طبيعتها.
هوية تتشكّل كل مرة أضيع فيها… لأتذكّر أن التيه الشيء الوحيد الذي لا يفقدني.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-11-2025 12:06 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||