11-11-2025 09:02 AM
بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
في شوارع عمان والمدن الأردنية، لا يحتاج المرء إلى كثير من الكلام ليفهم المزاج العام؛ يكفي أن تمرّ بين الوجوه لتقرأ تعب الأيام، وتسمع في صمت العيون حكاية وطنٍ يواجه تحدياته بصبرٍ نادر. المواطن الأردني اليوم لا يطلب المستحيل، بل فقط حياة عادلة تُنصف جهده، وراتبًا يكفيه دون أن يُثقل كاهله، ونظامًا ضريبيًا يُراعي من يُعطي، قبل أن يُطالب بما ليس في الجيب.
لقد أصبحت عبارة “غلاء المعيشة” جملةً تتكرر على الألسنة، حتى فقدت وقعها من كثرة ما استُهلكت، لكن خلفها وجعٌ يوميّ يعيشه الناس في الأسواق، في فواتير الكهرباء والماء، وفي كلفة التعليم والعلاج والمواصلات. إنها ليست مجرد أرقام، بل وجوه الآباء الذين يختصرون أحلامهم كي لا تنقص طاولة أولادهم شيئًا، والأمهات اللواتي يُجدن فن التوازن بين الدخل المحدود والاحتياجات التي لا تنتهي.
العدالة الضريبية… كلمة تتكرر، وأمل لم يتحقق بعد
حين يتحدث الأردني عن العدالة، فهو لا يعني المساواة المطلقة، بل الإنصاف الحقيقي. العدالة أن لا يُساوى بين من يملك الملايين ومن يكدّح ليعيش، أن تُفرَض الضرائب بما يتناسب مع الدخل، وأن تُوجَّه أموالها لتحسين الخدمات لا لزيادة الفجوات.
فما فائدة الضرائب إن لم يلمس المواطن أثرها في الطريق الذي يسير عليه، والمستشفى الذي يراجعه، والمدرسة التي يتعلم فيها أبناؤه؟
نعم، الوطن بحاجة إلى موارد، لكن المواطن أيضًا بحاجة إلى أن يشعر أن ما يدفعه يعود إليه على شكل كرامةٍ وخدمةٍ وأمانٍ اجتماعي.
لقد أثبت الأردني عبر عقود أنه الأكثر التزامًا بالقانون والأكثر صبرًا في مواجهة الأزمات، لكنه اليوم بحاجة إلى من يسمع صوته قبل أن يسمع أرقامه.
المعيشة بين طموح الدخل وواقع الأسعار
في السنوات الأخيرة، تغيّر شكل الحياة الاقتصادية في الأردن بسرعة مذهلة. الأسعار ترتفع بوتيرة لا توازي الزيادة في الرواتب، والفوارق الطبقية بدأت تتسع في مجتمعٍ كان يُعرف بتماسكه وتكافله.
أصبح الشاب الذي يتخرج من الجامعة يرى الحلم أقرب إلى الخيال، والموظف الحكومي يشعر أن سنوات خدمته الطويلة لا تكفي لتأمين مستقبلٍ آمن لأسرته.
ولأن الأردني ابن الصبر لا ابن الشكوى، فهو يواجه ذلك بالعمل الإضافي، بالبساطة، وبإعادة ترتيب أولوياته كل يوم. لكنه أيضًا يطمح أن يرى دولة تُعيد ترتيب أولوياتها معه — فكما يطلب الوطن من المواطن أن يصمد، من حق المواطن أن يطلب من الوطن أن يُنصف.
المعادلة الصعبة: الإصلاح المالي دون كسر الظهر الشعبي
من الطبيعي أن تعمل الحكومات على تحسين مواردها، وأن تبحث عن مصادر دخل جديدة، لكن الأخطر أن يتحوّل المواطن إلى المصدر الوحيد لسدّ العجز.
فحين يُستنزف جيب المواطن، يُستنزف معه إيمانه بأن الإصلاح لصالحه.
إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من رفع الضرائب، بل من ترشيد الإنفاق العام، ومكافحة الهدر، وتحسين كفاءة الإدارة، وضمان أن كل دينار يُجبى يجد طريقه إلى خدمة الناس.
إن دولة بحجم الأردن وتاريخها وموقعها الجغرافي الفريد، قادرة على أن توازن بين التنمية والعدالة، بين الإصلاح والرحمة، بين القانون والإنسانية.
لكن ذلك يحتاج إلى جرأة في إعادة النظر في المنظومة المالية كاملة، لا بقرارات آنية تزيد الضغط ولا تعالج الجوهر.
الكرامة قبل الأرقام
الناس لا تعيش بالأرقام فقط، بل بالكرامة.
كرامة أن يشعر المواطن بأن دولته تراه، وأنه ليس مجرد رقم في كشف الضرائب أو فاتورة الدعم.
كرامة أن يشعر الشاب أن جهده سيصنع له مكانًا لا أن يُهاجر بحثًا عن فرصة.
كرامة أن تشعر الأم أن مستقبل أبنائها في بلدهم لا في بلاد الغربة.
لقد حان الوقت لأن تكون العدالة الضريبية محورًا وطنيًا جامعًا، لا شعارًا اقتصاديًا يُقال في المؤتمرات.
فالعدالة ليست في فرض المزيد، بل في توزيع الموجود بإنصاف.
من صوت الشارع إلى صوت الدولة
صوت الأردني اليوم واضح:
نحن لا نرفض الإصلاح، بل نرفض أن ندفع ثمن أخطاء غيرنا.
نحن لا نعارض التطوير، بل نطالب أن يكون تطويرًا يرفع من جودة الحياة، لا يرهقها.
نحن لا نبحث عن التمرد، بل عن التوازن بين حق الدولة وحق المواطن.
ولعلّ أجمل ما يميّز الأردني أنه حين ينتقد، فهو لا يهاجم وطنه، بل يدافع عنه. ينتقد لأنه يحب، ويتألم لأنه ينتمي.
ولذلك فإن الاستماع إلى هذا الصوت لا يعني ضعفًا من الدولة، بل قوةً في إدراك أن الشعوب الواعية هي عماد الاستقرار لا مصدر تهديده.
الأمل الأردني… باقٍ رغم التعب
رغم كل الصعوبات، يبقى في قلب الأردني مساحة لا يمسّها اليأس.
تراه يبتسم وسط الزحام، ويساعد جاره رغم ضيق الحال، ويُربي أبناءه على أن الوطن لا يُقاس بما يأخذه منك، بل بما تمنحه له من إخلاص.
هذه الروح هي التي حفظت الأردن في أحلك الظروف، وهي التي تستحق أن تُكافأ بسياسات تليق بها.
وفي نهاية المطاف، يبقى القول الذي أردده دائمًا هو
إن الوطن لا يُبنى بالجباية، بل بالعدالة.
ولا تُقاس قوّة الدول بعدد كاميراتها أو ضرائبها، بل بمدى إنصافها للإنسان الذي يعيش على أرضها.
فلنُعد النظر في منظومة المعيشة بعيونٍ ترى المواطن لا الرقم، وبضميرٍ يسمع أنينه قبل صوته.
فالأردن يستحق أن يبقى وطن الكرامة، والمواطن يستحق أن يعيش فيه لاجئًا إلى الأمل لا إلى الصبر فقط.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-11-2025 09:02 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||