حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,6 نوفمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 5149

الرقيبات يكتب: "بالتاكيد مع رفع الرواتب والاجور .. لكن"

الرقيبات يكتب: "بالتاكيد مع رفع الرواتب والاجور .. لكن"

 الرقيبات يكتب: "بالتاكيد مع رفع الرواتب والاجور .. لكن"

05-11-2025 01:30 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : أ.د غازي الرقيبات
في مدار الوجود الاقتصادي، تدور الدول كما تدور الكواكب حول شمسها، لا تستقيم في مدارها إلا حين يكون جاذب التوازن حاضرًا في كل حركة، وفي كل قرار، لكن ماذا يحدث حين تتقدم الرغبة على القدرة، وحين يصبح الإنفاقُ مرهمًا سريع المفعول لوجعٍ يتعمق في الجذور؟، يحدث أن يُحقَن الجسد المالي بجرعةٍ من التفاؤل الزائف، بينما تتردى خلاياه الداخلية بصمتٍ لا يُرى، ان رفع الأجور دون إصلاحٍ اقتصادي عميقٍ، أشبهُ بتقديم وردةٍ إلى مريضٍ يختنق تُسعدهُ لحظة، لكنها لا تردُّ إليه أنفاسه، فالمال العام في حقيقته ليس ورقًا يُطبع، بل طاقةٌ تُنتَج، ومتى انقطعت الصلة بين الورقة والجهد، تحوّل الاقتصاد من منظومةٍ حيّةٍ إلى وهمٍ يتغذّى على ذاته.
لقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً صامتًا في الأسعار التي اخذت ترتفع كما يرتفع المدّ دون إنذار، فيما يقف الدخل الفردي على الشاطئ، عاجزًا عن اللحاق بالموجة، منهكًا من ثباتٍ لم يعد ثابتًا إلا في اسمه، تآكلت فيه القوة الشرائية كما يتآكل الجدار حين تتساقط عنه طبقات الطلاء القديمة، وبدأت جيوب الناس تشبه أرواحهم: مثقوبةٌ بالانتظار، خفيفةٌ من الأمل، بينما في الأسواق، صار الصمت لغة الموازين، إذ تتحدث الأسعار فيما يلوذ الدخل بالصمت، أما البطالة، فهي الوجه الآخر لعجز الروح الإنتاجية عن إيجاد صدى في واقعٍ يزداد انغلاقًا، فحين تتكاثر الأيدي الباحثة عن العمل وتقلّ المنافذ، يصبح الاقتصاد ككائنٍ يختنق بأنفاس أبنائه، يستهلكهم بحثًا عن هواءٍ لا يجده، وتتراجع مستويات المعيشة كبحرٍ انحسر عنه الماء، تاركًا وراءه قيعانًا من البؤس، وسُكونًا يعكس وجوه الذين ما عادوا يفرّقون بين الحلم والاحتياج.
إن الإصلاح المالي والاقتصادي ليس مجرّد جداولٍ وتوصيات وشعارات، بل هو اعترافٌ بأن الاقتصاد لا يُشفى بالمسكنات، ولا ينهض بالهتاف، بل هو رحلةٌ نحو إعادة ترتيب القيم قبل الأرقام؛ فحين يختلّ الميزان بين ما يُنتَج وما يُستهلك، بين ما يُنفق وما يُستثمر، تتحوّل الحكومة إلى عازفٍ يحاول أن يغطي نشاز الأوركسترا برفع الصوت، لا بإصلاح اللحن، فالاقتصاد ليس آلةً بلا شعور، بل كائنٌ له ذاكرة؛ يتذكّر الإسراف كما يتذكّر الحرمان، ويعاقب كليهما حين يُغفلان حدود التوازن، إنه مرآةٌ أخلاقية لروح الدولة، فإن خفّ فيها وعيُ العدالة، انعكست صور الفقر والبطالة والغلاء كظلالٍ كثيفة على وجه الحياة اليومية، فما الجدوى من رفع الرواتب إن كانت الأسعار سوف تتسلق جدران الأمل بسرعةٍ أكبر؟ وما معنى الزيادة إن كانت القوة الشرائية سوف تتناقص كل يوم كما يتناقص الضوء في آخر الخريف؟
اذا فالاستدامة الاقتصادية، في جوهرها، ليست لغة المصارف ولا حيلة الموازنات، بل حكمة البقاء في المسافة الدقيقة بين العطاء والقدرة، وهي أن تدرك الحكومة أن الاقتصاد، مثل القلب، يحتاج إلى انتظامٍ في النبض لا إلى دفعاتٍ من الحماس، وهي أن تفهم أن النمو لا يُقاس بما نطبع من نقود، بل بما نزرع من إنتاجٍ حقيقيٍّ يملأ السوق بالثقة قبل البضائع، وحين تفقد الحكومة هذا الإحساس، تتراجع قيم العمل أمام قيم الاستهلاك، ويصبح رفع الأجر وعدًا بالتضخم لا وعدًا بالكرامة، حينها تذبل الطبقة الوسطى، تلك التي كانت الساق التي يستند إليها الجسد الوطني، وتبدأ فجوة اللامساواة بالاتساع كشقٍّ في جدار لا يلتئم بسهولة.
عندها تكون الاستدامة المالية والاقتصادية ليست في بقاء الأرقام على قيد الحياة، بل هي كما في الرؤى والتوجيهات الملكية للحكومات المتتالية في بقاء الإنسان على قيد الكرامة، حينها يشعر الفرد أن جهده يثمر، وأن راتبه لا يتبخر في دخان الغلاء، وأن لقمة عيشه لا تحتاج إلى معجزةٍ في كل مطلع شهر، عندها يكون الاقتصاد مرآةً للعدالة لا للترف، ميزانًا يزن العرق لا الشعارات، يكافئ الإبداع لا الازدحام على فتاتٍ محدود، وحين تستعيد الحكومات هذه الفلسفة، تصبح الموازنة ليست مجرد وثيقة مالية، بل وثيقة وعي، يعود فيها الاقتصاد الوطني إلى نبضه الطبيعي، لا يلهث خلف الزيادات الطارئة، بل يسير بخطى ثابتة نحو كفايةٍ مستدامةٍ، لا يُقاس فيها الغنى بما نملك، بل بما نكفّ عن إهداره، ولا يُقاس الفقر بما نفتقد، بل بما نجهل من قيمة التوازن، فالاقتصاد، في نهاية المطاف، ليس علماً للأرقام، بل علماً للبقاء، ومن لا يتقن حكمة البقاء، سيتقن حتمًا فنّ الالم والمعاناة......!
أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات











طباعة
  • المشاهدات: 5149
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
05-11-2025 01:30 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك، هل تنتقل المعارك والمواجهات إلى الضفة الغربية بعد توقف الحرب بين "إسرائيل" وحماس في غزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم