25-10-2025 08:45 AM
سرايا - وسط الأزمة الكبرى التي تسبّبت بها الحرب في السودان الممتدّة منذ أكثر من عامَين ونصف عام، تبرز قضايا شائكة عديدة، من بينها دفن جثث مجهولة الهوية في أيّ مقبرة، ولا سيّما أنّ إكرام الميت دفنه.
في وقت تنتشر فيه الجثث التي خلّفتها آلة الحرب على طرقات السودان وبين أنقاض أحيائه، على الرغم من توقّف العمليات العسكرية في أجزاء من البلاد بما في ذلك العاصمة الخرطوم، تُسجَّل عمليات دفن كثيرة لجثث مجهولة الهوية بعد عجز في التعامل معها. يأتي ذلك بعدما راحت تغصّ المستشفيات بجثث المتوفّين مجهولي الهوية التي تُنقَل إليها، أو يكون أصحابها قد فارقوا الحياة فيها، علماً أنّ المنشآت الصحية التي ما زالت تعمل قليلة وذات إمكانيات ضئيلة، فيما تفتقر إلى ثلاجات موتى ومعدّات خاصة لحفظ الجثث، إلى جانب عدم توفّر كوادر مدربة وفنيّين للتعامل مع آلاف الجثث مجهولة الهوية.
ودفع عجز المستشفيات عن الاحتفاظ بالجثث ولو لأيام قليلة، إلى جانب ضعف الإجراءات الفنية التي تصاحب عملية دفن الموتى، إلى دفنها من دون أن تتمكّن آلاف العائلات من التعرّف إلى أفرادها الذين قضوا. ويشكو سودانيون كثر من الاستعجال في عمليات الدفن، إذ يُحرَمون من إمكانية إلقاء نظرة أخيرة على موتاهم.
عبد الله مهدي من بين هؤلاء السودانيين، وقد راح يبحث عن شقيقه المفقود في مدينة أم درمان بولاية الخرطوم على مدى أيام، قبل أن يشاهد صورته منشورةً على موقع فيسبوك مع إشارة "جثة مجهولة الهوية". حينها سارع إلى المستشفى المذكور في التدوينة، فأعلمه القائمون عليه بأنّ شقيقه دُفن في إحدى المقابر. ويقول مهدي : "لو أُبقيت جثّة شقيقي في ثلاجة بالمستشفى لأيام قليلة، كنت تمكّنت من استلامتها وأكرمته بالدفن بالطريقة اللائقة بدلاً من دفنه تحت لافتة مجهولة الهوية". ويشير مهدي إلى أنّه "قبل سنوات طويلة، كانت تتوفّر مشارح وثلاجات لحفظ الموتى في مستشفيات العاصمة والولايات، لكنّ الدمار الناجم عن الحرب تسبّب في خسارتها، وتحوّلت المستشفيات إلى نقطة لدفن الجثث مباشرة، حتى لو أنّ المتوفّى قضى في جناية، الأمر الذي قد يؤدّي إلى ضياع حقوقه بسبب دفنه من دون إجراء الفحوص المطلوبة".
وصار الإسراع في دفن الموتى من دون التحقّق من هوياتهم أمراً شائعاً في مناطق مختلفة من السودان المنكوب على خلفية الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 إبريل/ نيسان 2023، وذلك بسبب غياب السلطات الرسمية وتعطّل المستشفيات التي تعرّضت للنهب والتخريب ونزح أطباؤها، وهو وضع يصفه المواطن السوداني عبد الغفار أحمد بأنّه "غير طبيعي". ويقول أحمد، من سكان مدينة بحري في ولاية الخرطوم، : "من المفترض أن تبذل السلطات الرسمية قليلاً من الجهد في إطار التعامل مع الجثث مجهولة الهوية التي تصل إلى المستشفيات وتُدفَن لعدم توفّر ثلاجات لحفظها".
ويشير أحمد إلى أنّ "وزارة الصحة في السودان تخلّت عن دورها في التعامل مع تلك الجثث، وتركت الأمر لمتطوّعين يعملون بجهود ذاتية في دفن الجثث التي تصل إلى المستشفيات. أمّا تلك الملقاة على الطرقات، فهي مأساة كبيرة ما زالت تؤرّق السكان الذين عادوا إلى منازلهم في الخرطوم". ويتحدّث أحمد عن مشاركته شخصياً في دفن مدنيّين من دون اتّباع الإجراءات القانونية، فيروي أنّه "في أغسطس/ آب 2023، عندما كانت المعارك دائرة في الخرطوم سقطت قذيفة على امرأتَين فقُتلت إحداهما ونجت الثانية، إذ هربت من المكان. وبعد ثلاثة أيام من بقاء جثتها في مكانها، اضطررنا إلى دفنها بوصفها مجهولة هوية، فيما كان يمكن أن يتعرّف إليها أهلها لو وُضعت في ثلاجة موتى".
وفي منطقة ود عشانا بولاية شمال كردفان، وسط السودان، عمد السكان، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلى دفن أكثر من 20 جثّة لأشخاص مجهولي الهوية، من دون أيّ إجراء لحفظ حقوق الموتى وإتاحة المجال أمام عائلاتهم للتعرّف إليهم. ويقول أحد الذين شاركوا في عملية الدفن: "كان من بين الضحايا سائقو مركبات عامة صدف وجودهم في المنطقة أثناء هجوم مباغت شنّته قوات الدعم السريع. وقتلت النيران العشوائية وكذلك الاستهداف المباشر عدداً كبيراً من المدنيين الذين لم يتعرّف إليهم أحد، حتى بعد مرور 48 ساعة على مقتلهم". يضيف: "ولأنّ المستشفى الوحيد في المنطقة كان مغلقاً ولا يوجد أيّ طبيب، فيما غابت كلياً السلطات الرسمية، تعاون سكان المنطقة لدفن الجثث من دون التحقّق من هويات أصحابها".
في سياق متصل، يُصار إلى دفن الجثث مجهولة الهوية فور وصولها إلى المستشفيات في ولاية شمال دارفور، غربي السودان، حيث تسيطر قوات الدعم السريع. ويفيد مصدر طبي في وزارة الصحة السودانية بأنّه "نقوم بإجراءات وكشف أوّلي ثمّ نرسل الجثة للدفن، إذ لا تتوفّر ثلاجة لخفظ الجثث في ولايات إقليم دارفور الخمس، ولا يوجد أطباء شرعيون للإشراف على الفحص والتشريح".
ونتيجة تعطّل المؤسسات الرسمية في السودان وإغلاق مستشفياته قسراً وعدم توفّر ثلاجات للموتى فيه، أُطلقت مبادرات أهلية عديدة من أجل دفن الموتى مجهولي الهوية. وعلى الرغم من إغفالها إجراءات كثيرة قانونية وطبية ملزمة، فإنّ هذه المبادرات الأهلية تحاول سدّ الفراغ الناجم عن غياب السلطات. وقد تمكّنت، بطرق أقلّ احترافية، من توثيق وفاة آلاف الأشخاص مجهولي الهوية الذين قُتلوا في أثناء المعارك العسكرية أو في ظروف غامضة.
ومن بين أكثر المبادرات الأهلية نشاطاً في ولاية الخرطوم، تأتي "مبادرة مجهولي الهوية" التي تنشط من مستشفى النو الحكومي في مدينة أم درمان. فخلال ثلاثين شهراً من النزاع المتواصل في البلاد، تمكّنت هذه المبادرة من دفن ثمانية آلاف و870 جثة مجهولة الهوية، معظمها من المدينة. ويقول العضو في المبادرة سامي طلعت: "بعد اندلاع الحرب في السودان في منتصف إبريل 2023، توقّفت مؤسسات الدولة الرسمية عن العمل وكذلك المستشفيات، الأمر الذي جعلنا نبادر إلى دفن جثث الذين كانوا يسقطون في الطرقات بالرصاص والقذائف". يضيف طلعت: "أردنا سدّ الفراغ الذي خلّفته المؤسسات الرسمية. وفي غياب ثلاجات الموتى وعدم اضطلاع أجهزة الشرطة والنيابة العامة بعملها، رحنا نوثّق ما نقوم به، ونصوّر كلّ جثة قبل دفنها بالهاتف ونجمع متعلقاتها الشخصية"، ويشير إلى أنّ الأهالي تعرّفوا إلى هويات 263 جثّة من مجموع الجثث (8.870 جثة) التي عمدت المبادرة إلى دفنها.
وقبل اندلاع الحرب في السودان كانت ثمّة ثلاث مشارح حكومية في الخرطوم؛ مشرحة مستشفى بشائر ومشرحة مستشفى أمبدة ومشرحة مستشفى أم درمان، إلى جانب عدد آخر من المنشآت المماثلة في المستشفيات الخاصة. ويقول طبيب في مستشفى أم درمان الحكومي: إنّ "عدد الجثث مجهولة الهوية التي دفنّاها، بواسطة متطوّعين من مستشفى النو، كان قليلاً مقارنة بأعداد القتلى الذين لم تُكشَف هوياتهم بعد". يضيف أنّ "نحو تسعة آلاف جثة مجهولة الهوية دُفنت عبر مبادرة صغيرة في مستشفى واحد، الأمر الذي يعني أنّ العدد الحقيقي للقتلى، الذين ما زالت جثث عدد منهم على الطرقات، مرتفع جداً".
ويشير الطبيب نفسه إلى أنّ "الأمر لا يتعلق بعدد قتلى الحرب الذين قدّرتهم جهات خارجية بنحو 150 ألف قتيل، إنّما المقصود القتلى الذين دُفنوا مجهولي الهوية عبر مبادرات أهلية بسبب انهيار المنظومة الصحية وعدم اهتمام مؤسسات الدولة التي وجدت نفسها عاجزة أمام مسؤولياتها الأساسية، من بينها التحقّق من هويات القتلى الذين وجدوا أنفسهم وسط المعارك العسكرية من دون رغبة لهم في ذلك".
ويوضح الناشط سامي طلعت أنّه "في مبادرتنا، نجتهد في حفظ المتعلقات الشخصية التي تعود لأصحاب الجثث، وفي تصوير تلك الجثث ونشر الصور والمستندات المتوفّرة على صفحاتنا على موقع فيسبوك، وذلك من أجل الوصول إلى ذوي القتلى". ويلفت طلعت إلى "عدم توفّر إمكانيات لدينا لحفظ عينات من الحمض النووي أو أيّ إجراءات أخرى" تساعد في التعرّف إلى جثث مجهولي الهوية، لكنّه يؤكد أنّه "ما زلنا ننفّذ عملية توثيق بهواتفنا، ونحتفظ بكلّ بيانات القتيل وصوره والعلامات والآثار الظاهرة على جسده". ويكمل طلعت أنّ الأجهزة الرسمية، بعد عودتها للعمل في الخرطوم، صارت تتعامل مع المبادرة بوصفها الجهة المعنية بمجهولي الهوية، مبيّناً أنّ "النيابة صارت تحوّل لنا الجثث عبر الشرطة، للتوثيق والدفن".
من جهته، يرى الطبيب هشام فقيري، المدير السابق لهيئة الطب العدلي لدى وزارة الصحة السودانية، أنّ "الحرب خلّفت أعداداً كبيرة من الجثث التي تعود لمجهولي هوية على الطرقات، في مناطق عدّة بولاية الخرطوم وخارجها". يضيف في حديث: أنّ "جمعها تأخّر بسبب الإمكانيات الضئيلة لهيئة الطب العدلي، الأمر الذي أضعف القدرات الرسمية، وبالتالي جعل المبادرات الشعبية تنشط في التعامل مع الجثث مجهولة الهوية التي تصل إلى المستشفيات بمختلف الطرق". ويشدّد فقيري على "ضرورة تأهيل المتطوّعين بشأن كيفية التعامل مع الجثث مجهولة الهوية قبل دفنها، وفقاً للإجراءات العدلية والطبية الشرعية".
وتعليقاً على زيادة عدد الجثث مجهولة الهوية في السودان وطريقة التعامل معها ودفنها في بعض الأحيان بطرق لا تُتّبع فيها الإجراءات القانونية، يقول القاضي السابق محمد أحمد ، إنّ "الجثث المثيرة للانتباه كثرت، ويُفترض في مثل هذه الحالات التشديد على التعامل معها، مع اعتماد عمليات دفن بحسب الإجراءات العدلية والطبية"، ويشرح أنّه "في مثل هذه الظروف، من غير المستبعد أن تكون جثث عدّة، من بين التي تُنقَل إلى المستشفيات لدفنها بوصفها مجهولة الهوية، لم يقضِ أصحابها من جرّاء إصابات برصاص طائش أو مقذوفات. من الممكن أن يكونوا قد سقطوا ضحية القتل العمد بفعل فاعل، وفي هذه الحالة لا بدّ من التعامل مع الجثة بطريقة مختلفة في ما يتعلّق بالتوثيق، ثمّ يُحال الأمر إلى الجهات القانونية للتحقيق والوصول إلى الجناة". ويلفت أحمد إلى أنّه "مع ضعف المؤسسات وعدم قدرة المستشفيات على القيام بواجبها، تدخّل المتطوّعون الذين قد يقعون في أخطاء كثيرة عن حسن نيّة ولعدم إلمامهم بالقوانين والإجراءات الرسمية".
العربي الجديد
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
25-10-2025 08:45 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||