20-10-2025 08:45 AM
بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات بين الغضب والدمار، وبين الشعارات والادعاءات، يظل الأردن واقفًا في المنتصف، كجسرٍ للعقل، وكصوتٍ يحمل في نبراته الحكمة لا الانفعال. بعد الحرب على غزة، لم يكن الأردن مجرد متابعٍ من بعيد، بل كان نبضًا من الداخل، وشريكًا في الألم، وصوتًا حاول أن يُعيد للغة الإنسانية معناها في زمنٍ فقدت فيه الكلمات قيمتها.
منذ اندلاع الأحداث، لم يتبدل موقف الأردن، بل ازدادت ملامحه وضوحًا. الدولة التي طالما نادت بالسلام العادل، لم تتخلَّ يومًا عن الحق الفلسطيني، ولم تساوم على مبادئها، لكنها اختارت أن تُعبّر عن مواقفها بالعقل لا بالصراخ، وبالإنسانية لا بالانتقام. فحين علا صوت السلاح، كان صوت الأردن دعوةً إلى وقف النار، وحين انطفأت أنوار غزة تحت الركام، كانت عمّان ترفع صوتها عاليًا لتذكّر العالم بأن الصمت جريمة.
الأردن لم يكن يتحدث من موقع القوة العسكرية، بل من موقع الضمير، وهذا ما جعله مختلفًا عن غيره. فمنذ عقود، يوازن بين الانتماء القومي والمسؤولية الإنسانية، ويُدرك أن الدفاع عن فلسطين لا يعني تأجيج الكراهية، بل حماية العدالة. لقد استطاع أن يثبت أن الموقف الأخلاقي لا يحتاج إلى ضجيج، وأن الهدوء أحيانًا أبلغ من كل الشعارات.
في أعقاب الحرب، برز الأردن كأحد الأصوات العربية القليلة التي استطاعت أن تجمع بين التعاطف والاتزان، وبين الغضب المشروع والرؤية البعيدة. فبينما انشغلت بعض الدول بلغة المزايدات، كان الأردن ينسج خطابًا متزنًا، يُقدّر التضحيات لكنه يدعو إلى حلول تحفظ للإنسان حقه بالحياة. لم يكن الحياد خيارًا، بل كانت المسؤولية هي الدافع.
لقد أثبتت التجربة أن الأردن ليس دولة صغيرة كما يُظن، بل دولة ذات موقف كبير. فمن خلال دبلوماسيته الهادئة، استطاع أن يُحرّك الملف الإنساني في غزة على المستوى الدولي، وأن يدفع بمسار المساعدات والإغاثة إلى الأمام. لم تكن تلك التحركات مجرد سياسة خارجية، بل امتدادًا لنهجٍ متجذرٍ في وجدان الدولة الأردنية منذ عهد الهاشميين الأوائل، الذين آمنوا أن العدالة لا تتجزأ، وأن الكرامة لا تعرف حدودًا.
الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه، في كل خطاباته، كان يُصرّ على أن الأمن لا يتحقق إلا بالعدل، وأن الحل العادل للقضية الفلسطينية هو أساس استقرار المنطقة. لم تكن هذه العبارات للاستهلاك الدبلوماسي، بل قناعة راسخة، وامتداد لرؤيةٍ تؤمن أن الدم الفلسطيني ليس رقمًا في نشرات الأخبار، بل جرحٌ عربي واحدٌ يمسّنا جميعًا.
بعد الحرب على غزة، وجد كثيرون أنفسهم يعيدون النظر في مفهوم “الدور العربي”. فبينما تراجعت بعض المواقف، ظل الأردن ثابتًا، يُعيد للعروبة معناها الأصيل: نصرة المظلوم دون أن تتحول إلى عداوة عمياء، والدفاع عن الحق دون أن يُنسف مفهوم الدولة. هذا الاتزان جعل الأردن اليوم يُقدّم نفسه للعالم كنموذج في الواقعية النبيلة، الواقعية التي لا تنحني، بل تفكر وتزن وتُقرر بما يخدم الإنسان أولًا.
الملفت أن الشارع الأردني لم يكن صامتًا، بل كان مرآةً لتلك المواقف الرسمية. فالمشاعر الشعبية لم تكن مجرد تضامن، بل كانت فعلًا مستمرًا، من قوافل الإغاثة إلى الحملات التطوعية، إلى المواقف التي تُثبت أن الأردني حين يتحرك، فإنه يتحرك من قلبٍ يعرف الألم ولا ينسى الواجب. بين الكرك وإربد والزرقاء والسلط والعقبة، كانت الهتافات تُعبّر عن وعيٍ جمعيٍّ بأن الدفاع عن غزة ليس عملًا سياسيًا بل واجبًا إنسانيًا.
ولعل أجمل ما ميّز هذا الموقف هو أن الأردن لم يكتفِ بردّ الفعل، بل قدّم رؤيةً استشرافية تُخاطب المستقبل. ففي الوقت الذي كانت فيه بعض القوى تتحدث بلغة “ما بعد الحرب”، كان الأردن يُخطط لما بعد الدمار، لما بعد الألم، لما بعد الدماء، واضعًا نصب عينيه فكرة إعادة بناء الإنسان قبل الحجر.
هذا هو الفرق بين من يتاجر بالمأساة ومن يحملها على كتفيه كمسؤولية. فالأردن لم يرفع صوره في المؤتمرات، بل رفع صوته من أجل الأطفال الذين فقدوا الأمل، والنساء اللواتي يبحثن عن مأوى، والشيوخ الذين ينتظرون العالم أن يفي بوعوده.
في نظر الكثير من المراقبين، أصبح الأردن بموقفه هذا صوت العقل العربي بحق، لأنه لم يُنكر المأساة ولم يتاجر بها، ولم يُبرر القتل، بل دعا إلى الحوار والعدالة والرحمة. هذه اللغة باتت نادرة في زمنٍ غلبت فيه لغة الكراهية والتعصب، لكنها اللغة التي يحتاجها العالم ليبقى فيه بعض من إنسانية.
لقد استطاع الأردن أن يُذكّر الجميع بأن الحرب لا تُنتج إلا مزيدًا من الأيتام، وأن العدالة وحدها تصنع الأمن، وأن الحق لا يُنتزع بالصراخ بل بالصبر والموقف الثابت. في زمنٍ مضطرب، كان الأردن عقلًا عربيًا متزنًا، لم يُبدّل مواقفه رغم العواصف، ولم يُقايض المبادئ بالمصالح.
في هذه المرحلة الحساسة، يُثبت الأردن مرة أخرى أن صموده ليس في حجمه الجغرافي، بل في قيمه الهاشمية التي جعلت من الكلمة مسؤولية، ومن الدبلوماسية شجاعة. فحين تتحدث عمّان، يسمعها العالم بإنصات، لأنها لا تتحدث باسم طرفٍ ضد طرف، بل باسم ضميرٍ عربيٍّ لا يزال يؤمن أن الحل الحقيقي يبدأ من الإنسان وينتهي بالسلام.
رسالة إلى العالم:
في زمنٍ تغيب فيه الحقيقة بين العناوين، يتحدث الأردن بقيادته الهاشمية الحكيمة بلغةٍ لا تحتاج إلى ترجمة: لغة العقل، لغة الرحمة، لغة الكرامة الإنسانية. فلتتعلموا من هذا الوطن الصغير في جغرافيته، الكبير في مواقفه، أن الوقوف إلى جانب الحق لا يحتاج إلى جيش، بل إلى ضميرٍ حي.
حين تتهاوى الشعارات، يبقى صوت العقل هو آخر ما ينقذ العالم من الجنون.
وها هو الأردن… صوت العقل العربي الذي لا يصرخ، بل يُذكّر أن العدل أساس الحياة، وأن من فقد إنسانيته فقد وطنه.
لقد علّمنا الأردن أن الكرامة لا تُشترى، وأن العروبة ليست شعارًا يُرفع، بل موقف يُتَّخذ. وبين كل حربٍ تُطفئ ضوءًا، يبقى الأردن شمعة الأمل التي لا تنطفئ، تقول للعالم: ما زال في الأمة قلبٌ ينبض، وما زال فينا صوتُ عقلٍ يحمي الحلم العربي من الضياع.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
20-10-2025 08:45 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |