19-10-2025 09:12 AM
بقلم : كريم عبدالرحمن شوابكه
لم يكن الزواج في حارتنا حدثًا عابرًا، بل كان أشبه بقدرٍ يُخطّ في الليل قبل الفجر، حيث تجلس العائلات في صمتٍ متواطئ، تتبادل النظرات أكثر مما تتبادل الكلمات، كأنها توقّع عهدًا قديماً لا كتابة فيه ولا توقيع، لكن الجميع يعرف بنوده: الطاعة، السمعة، وحفظ السِرّ.
في ذلك العالم، لا يُسأل القلب رأيه، فالقلب كائن طائش لا يُستأنس به، أما العقل فمؤدّب، يلبس جلباب العرف ويجلس بين الشهود. يجلس الأب على مصطبة الدار، واضعًا يده على سبحة الزمان، يضرب حباتها كأنه يحصي أعمار أبنائه، ويقول: "هكذا وجدنا آباءنا." أما الأم فتُخفي في عينيها خوفًا لا يُقال، خوفًا من أن تصبح ابنتها نسخة أخرى من صمتها الممتد عبر السنين.
تُزف الفتاة إلى رجلٍ لا تعرف ملامحه إلا عبر ثناء الجيران، وتُطمئن نفسها بأن الاحترام قد يكون بديلاً للحب، وأن الاعتياد قد يُصبح قدرًا يسكن الروح. في ليلة الزفاف، حين تُطفأ الأنوار وتبدأ مراسم الفرح، تدرك أن العالم كله من حولها يحتفل، إلا قلبها، فهو يجلس في زاوية بعيدة، يراقب المشهد كما يراقب غريبٌ مسرحية لم يُدعَ إليها.
ورغم ذلك، لا يحمل الزواج التقليدي وجهًا واحدًا؛ فهو ليس سجنًا كاملًا ولا جنةً خالصة. إنه ساحة صامتة، يمكن أن تُزرع فيها بذور الألفة كما يمكن أن تُحفر فيها مقابر الأحلام. فالزوج قد يكون رفيقًا يتعلم لغة الصبر، أو غريبًا لا يرى في بيته إلا جدرانًا وأثاثًا وامرأةً خُطّ اسمها في عقد رسمي.
تمر الأعوام، وتتعلم المرأة كيف تُدار الحكاية. تضع في طعامها ما لا تضعه في كلامها؛ تنثر في البيت رائحة الخبز لتخفي رائحة الأسئلة. تُنجب الأطفال وتصنع من ضحكاتهم جسرًا تُعبر عليه فوق نهر خوفها. وقد يأتي يوم تجلس فيه إلى جواره في صمت المساء، فتكتشف أنه بدوره لم يختَر، بل سُوق كما سِيقَت، وأنه مثلها كان يبحث عن وجهٍ يعرفه فلم يجد إلا وجه العادة.
هكذا يمضي الزواج التقليدي في حارة الزمن: يبدأ غريبًا، ثم يصير مألوفًا حدّ الذوبان. لا يسأل عن الحب، بل عن الاستمرار. لا يحتفي بالنبض، بل بالواجب. ومع ذلك، يظل فيه سرٌ غامض: فبعض القلوب، رغم القيود، تهتدي إلى رفقة هادئة، وبضع حكايات صغيرة تذيب صلابة الإطار المرسوم.
وفي النهاية، حين تجلس المرأة على أعتاب خريفها، قد لا تذكر متى أحبّت، لكنها تذكر جيدًا متى صبرت. وتدرك أن الزواج في عالمنا لم يكن اختيارًا، بل امتحانًا طويلًا، لا يُكرَّم فيه العاشق، بل من يحفظ العهد حتى النهاية… حتى ولو لم يفهمه.
بقلم كريم شوابكه
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-10-2025 09:12 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |