بقلم : رهان طارق المجالي
في ظل التسارع الهائل في إنتاج
المعرفة وتعدد مصادرها، أصبح التحصيل العلمي عملية مستمرة تتجاوز الإطار الأكاديمي التقليدي لتتحول إلى نهج فكري وسلوكي يمتد على مدار الحياة. فالعصر الرقمي الذي نعيشه اليوم يشهد ثورة معرفية تتقاطع فيها التقنية مع العلوم الإنسانية، وتتشابك فيها المجالات لتنتج أنماطاً جديدة من التفكير والابتكار. هذا الواقع الجديد يفرض إعادة تعريف لمسار التعلم؛ إذ لم تعد الشهادة الأكاديميةغاية نهائية، بل بوابة لانطلاق مرحلة جديدة من البحث النقدي والتساؤل العلمي المتجدد.

إن الاعتقاد بأن بلوغ درجة أكاديمية عليا يمثل نهاية المطاف في مسيرة المعرفة هو وهم معرفي يجب تفكيكه. فالقيمة الحقيقية للباحث أو المتعلم لا تكمن فيما حصّله من معلومات، بل في قدرته على التكيف مع مستجدات المعرفة وتوظيفها في بناء تصور جديد يسهم في التقدم العلمي والمهني. ومع التغيرات المتسارعة في مجالات التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، واقتصاد المعرفة، أصبحت المعارف الثابتة محدودة الصلاحية، مما يحتم على المتعلم أن يتحول من "مستهلك للمعرفة" إلى "منتج لها"، عبر عملية تعلم مستمر تكامل فيها بين الفضول العلمي والممارسة النقدية.

يقوم التعلم المستدام على وعي الفرد بحدود معرفته وتواضعه العلمي الذي يدفعه إلى البحث الدؤوب والاكتشاف والتجريب. في المقابل، يمثل التعلم الذاتي أحد ركائز هذا النهج، إذ يُعد وسيلة تمكّن المتعلم من توجيه مسيرته المعرفية وفق احتياجاته وأهدافه، مستفيداً من المنصات الرقمية المفتوحة، والدورات التفاعلية عبر الإنترنت، والمستودعات البحثية العالمية. هذه الأدوات لم تعد تكميلية، بل أصبحت بنية تحتية أساسية لبناء "عمق معرفي" متجدد يربط بين النظرية والتطبيق، ويعزز من القيمة العملية للشهادات الأكاديمية.

التحدي المعاصر لم يعد في الوصول إلى المعلومة، بل في القدرة على تحليلها، نقدها، وتوظيفها في سياق معرفي متكامل. وهنا تظهر أهمية التحفيز الذاتي كمحرك رئيسي للتعلم المستدام، خاصة في بيئات التعليم عن بُعد التي تتطلب انضباطاً ذاتياً وقدرة على التنظيم والمتابعة. إن النجاح في هذا السياق يعتمد على امتلاك مهارات التفكير النقدي، والتعلم المنظم ذاتياً، والقدرة على دمج الخبرات ضمن منظومة فكرية متماسكة.

في المحصلة، لم تعد الفجوة في سوق العمل تقاس بعدد الألقاب الأكاديمية، بل بمرونة الفرد واستعداده المستمر للتعلم وإعادة التكيف مع التحولات. فقيادة المستقبل المعرفي لا تنتظر انتهاء الدراسة أو الحصول على شهادة، بل تبدأ خطوة بخطوة عبر كل دورة جديدة وكل تجربة تعلم ذاتية. لذلك، يغدو التعلم المستدام ليس خياراً ترفيهياً، بل استراتيجية وجود في عالم يتغير بسرعة، وشرطاً أساسياً للمشاركة في صياغة المستقبل المعرفي العالمي.