13-10-2025 08:29 AM
سرايا - في حضرة المائدة العباسية، حيث تتعانق الأطعمة بالفنون وتتحوّل القدور إلى مسارح للأحلام، ينبثق هذا العمل كتحفة سردية تُعيد تشكيل بغداد لا كمدينة جغرافية وحسب، بل كفضاء أسطوري تتصارع فيه الشهوات والمعارف، وتلتقي فيه نكهة الكحل بعبير الباذنجان، وصوت المغزل بخرير دجلة. وهنا تكشف لنا الكاتبة هدى الشوا، التي عُرفت بقدرتها على إعادة قراءة التاريخ بعيون إنسانية رفيعة ولغة آسرة، عن عمق تجربتها التي تمزج البحث الدقيق بالخيال المبدع، فترسم بغداد العباسية بكل زينتها وأسرارها. تدور الأحداث حول المآدب التي لم تكن مجرد مجالس طعام، بل مسارح تُعرض فيها سلطة الخلفاء ومهارة الطباخين وتنافس الجواري، فنرى الخليفة الذي يتخذ من الوليمة وسيلة لإبراز جبروته، والجواري اللواتي يتبارين في الطهي والغناء ليحظين بالقبول، والطباخين الذين يحوّلون أدوات المطبخ إلى أدوات صراع ناعم، فيما يظل عامة الناس على هامش المشهد، شهودًا على ترفٍ يوشك أن ينقلب إلى سقوط. يتجلّى المكان في بغداد التي تجمع بين فخامة القصور ورائحة الأزقّة، ويتبدّى الزمان العباسي كإيقاع متوتر يجمع بين مجد حضاري يتلألأ وانهيار يقترب ببطء.
على هذا المسرح نلتقي بشخصيات تُذكر بمشهدية حية: الورّاق العاشق للكتب والرسوم الذي يرى في الكتاب مرآة المائدة، وابن المنجم المتغطرس الذي يرسل باذنجاناته كرسالة منافسة، وابن الطيب المتألم الذي يلعن الفأر ويشتكي من الفوضى، وابن خرداذبة الرحّالة الذي يعود بحكايا وقرن الكركدن، وابن بختيشوع الطبيب العارف بخصائص الأدوية، وزرياب رمز الذوق والموسيقى، أما الشخصية التي تشع في قلب العمل فهي بديعة: الطباخة التي تكسر احتكار الرجال وتدخل الميدان بجرأة لتصبح رمزًا للتمرد والإبداع الأنثوي؛ ونرى حولهم أيضاً الوزير صاعد بن نظام كالحاكم الخفي لخيوط المصير، وأنس وعلاقته ببديعة، والمهرج بلبل وببغاءه الناطق الذي يقلب موازين الاتهام بصراخه: «السم في شراب الورد صاعد دس السم».
الأحداث تتسارع من لحظات تحضير الباذنجان ومنافسات الطهاة في قصر السلطان، إلى مشهد التسميم والهرج في المسابقة ثم المحاكمة، حيث تتبدى المكائد وتنكشف النوايا، فالسم هنا لا يظل مجرد مادة قاتلة بل رمز لسموم الحسد والسلطة. ومن أهم لحظات القصة إفصاح الببغاء والقرار القضائي الذي يطلق سراح الطهاة، ثم التحول إلى فعل إنساني: تعاونهم لصنع الترياق وتأليف كتاب طهي جماعي عنوانه: «كثر الفوائد في تنويع الموائد»، وامتداد أثر بديعة في فتح «مطبخ بديعة» الذي يقدّم الطعام للفقراء.
لم يكن المكان والزمان في بغداد العباسية وقصورها وخاناتها خلفية جامدة، بل قوة محركة تصنع تناقضات رخاء الحاضر ووشاية المستقبل، والنهاية لا تصل إلى حلٍّ بسيط بل تُغلق بدلالة تأملية: المائدة صارت مرآة لحضارة ذاقت المجد وتهدّدها سمومها الذاتية؛ والهدف من القصة، ببلاغة هدى الشوا، هو أن يقرأ القارئ التاريخ من خلال تفاصيل يومية، أن يرى كيف تتقاطع السلطة بالفن، وكيف ترتدي المنافسة صورة مأدبة لتفضح هشاشة المجد.
وأما لغة النص فجاءت غنية بالحواس، مشحونة بالصور والروائح والأصوات، تجعل السرد أقرب إلى طقوسٍ بصريّة وسمعيّة في آن، وتتزن بين الفخامة الوصفية والرمزية العميقة، فأنت لا تقرأ وصفًا لطَبخة وحسب، بل تتذوّق نصًا يطهو لك حضارة كاملة في قالب سردي واحد.
وهكذا تنغلق القصة على حقيقة أعمق من مجرد منافسة في الطهو أو مشهد تسلية في قصر عباسي، فهي تُظهر لنا أنّ المائدة ليست مكانًا للطعام وحسب، بل مرآة لحضارة بكاملها؛ حضارة قد يبلغ بها البذخ ذروة الرفاه لكنها تظل مهدَّدة بسموم الطمع والمؤامرة. ومن هنا تتجلّى القيمة الكبرى التي نستنتجها من العمل: أن التفصيلات اليومية، مهما بدت بسيطة، تكشف جوهر الأمم وتعلن مصائرها، وأن الفن قادر على تحويل لذّة الطعام إلى رمز للتاريخ، والوليمة العابرة إلى درس خالد في السلطة، والهشاشة الإنسانية، وضرورة الوعي بما يقي الحضارة من الفناء.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-10-2025 08:29 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |