حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,11 أكتوبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4725

العشي يكتب: انتصرت غزة… وبقي السؤال: من الذي انهزم حقًا؟"

العشي يكتب: انتصرت غزة… وبقي السؤال: من الذي انهزم حقًا؟"

العشي يكتب: انتصرت غزة… وبقي السؤال: من الذي انهزم حقًا؟"

11-10-2025 09:10 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
في لحظات التاريخ الفاصلة، لا تُقاس الهزيمة بعدد الطائرات التي حلّقت، ولا الانتصار بعدد القذائف التي سقطت، بل يُقاس بما يبقى في روح الإنسان بعد العاصفة. وغزة، تلك البقعة الصغيرة على خارطة الأرض، أثبتت مرة أخرى أن الجغرافيا لا تصنع القوة، وأن الإرادة حين تتجذر في الوعي تصبح سلاحًا لا يُقهر، وأن الشعوب التي تؤمن بحقها لا تُهزم حتى لو خلت الساحات من السلاح.

اليوم، تتنفس غزة من رماد الحرب وتعلن للعالم أن الصمود ليس فعلًا عابرًا، بل هو هوية، وأن الانتصار لا يأتي دفعة واحدة، بل يتخلق في التفاصيل اليومية التي تكتبها وجوه الناس، في صبر الأمهات، وفي عيون الأطفال الذين رغم الجراح، ما زالوا يضحكون لأنهم يعرفون أن النور قادم.


أولًا: انتصار الوعي قبل المعركة

ربما لم يدرك كثيرون أن معركة غزة كانت في جوهرها معركة وعي بقدر ما كانت معركة سلاح. فالخصم راهن على كسر الإرادة، على جعل الفلسطيني يشعر أن الحياة بلا كرامة قدرٌ لا مفر منه. لكن ما حدث كان العكس تمامًا: فقد أفرزت الحرب وعيًا جديدًا، أكثر صلابة ووضوحًا، جعل العالم يرى الفلسطيني لا كضحية فحسب، بل كصاحب حقٍ يواجه آلةً لا تعرف الرحمة، لكنه لا يتراجع.

وهذا التحول في الوعي الشعبي العربي والدولي هو في ذاته أحد أعظم أشكال الانتصار. فاليوم باتت القضية الفلسطينية تعود إلى صدارة المشهد العالمي، لم تعد هامشًا أو حدثًا عابرًا، بل عنوانًا للكرامة الإنسانية، ومرآة تكشف معادن الأمم.


ثانيًا: عندما يصبح الصمود شكلاً من أشكال البطولة

الانتصار في غزة لم يكن انتصار جيشٍ نظامي على آخر، بل كان انتصار الإنسان على حدود المستحيل. كان انتصارًا لامرأةٍ تنام على صوت الانفجارات وتستيقظ لتطبخ لأطفالها ما تبقّى من القمح، انتصارًا لرجلٍ يخرج من تحت الركام ليبني خيمةً صغيرة ويقول: “لن نغادر”.

هذا الصمود ليس مجرد بقاء، بل فعل مقاومة متكامل. إنه تذكير للعالم أن الشعوب حين تتشبث بحقها تصبح أقوى من القنابل، وأن من يتقن فن البقاء على قيد الأمل لا يمكن أن يُهزم مهما طال الليل.


ثالثًا: الانتصار الأخلاقي والإنساني

في عالمٍ امتلأ بالازدواجية والمعايير المتناقضة، استطاعت غزة أن تضع الجميع أمام اختبارٍ أخلاقي صعب. فالمشاهد التي خرجت من بين الدمار لم تكن مجرد صور للحرب، بل كانت مرايا للضمير الإنساني.

وبينما حاول البعض تبرير القتل أو التزام الصمت أمامه، كانت غزة تقول للعالم: “لسنا أرقامًا، نحن بشر نحب الحياة كما تحبونها.”
هذا النداء الإنساني اخترق جدران الإعلام والسياسة، وأعاد تعريف المفاهيم: من هو المنتصر؟ من هو المظلوم؟ من يستحق الحياة؟

انتصرت غزة لأنها أعادت للإنسانية معناها، وأثبتت أن الدم الفلسطيني، رغم كثرة سالكيه، هو الذي يصنع يقظة الضمير في وجه عالمٍ مُتبلّد الإحساس.


رابعًا: الانتصار في معركة الرواية

منذ عقود، كان الإعلام العالمي يسرد القصة من زاوية واحدة، يُظهر المعتدي ضحية، ويجعل من المظلوم مجرمًا. لكن هذه المرة، انهارت الرواية التقليدية أمام سيل الحقيقة. فالإعلام البديل، والمشاهد المباشرة، وصرخات المراسلين في قلب الحدث، صنعت وعيًا عالميًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل.

أصبح الإنسان في كل مكان يرى الصورة الحقيقية، ويسمع صوت الضحايا بلا وسيط، ويعرف أن هناك شعبًا يُقصف لأنه يرفض أن يُمحى.
وهنا، تحقّق النصر الإعلامي الذي لم تستطع أي قوة أن تمنعه.

لقد انتصرت غزة في ميدان الكلمة كما انتصرت في ميدان الصبر، وكتبت بدمها أصدق بيانٍ إعلامي عرفته البشرية الحديثة.

خامسًا: الانتصار السياسي والرمزي

الانتصار لا يُقاس فقط بالنتائج الميدانية، بل بالتحولات السياسية التي تفرضها الدماء والتضحيات. واليوم، لم يعد ممكنًا تجاهل صوت فلسطين على الطاولات الدولية، ولم يعد ممكنًا التحدث عن الشرق الأوسط دون أن تكون غزة في قلب المعادلة.

التحركات الدبلوماسية، والضغوط الشعبية، والمظاهرات التي عمّت مدن العالم من واشنطن إلى لندن، ومن عمّان إلى كوالالمبور، كلها شواهد على أن الانتصار خرج من حدود الميدان إلى ساحة الوعي العالمي.

لقد أجبرت غزة العالم على النظر في مرآته، وجعلته يواجه سؤالًا لم يعد بالإمكان تجاهله: أيّ مستقبلٍ يمكن أن يُبنى فوق أنقاض العدالة؟


سادسًا: البعد الروحي في الانتصار

هناك ما هو أعمق من النصر العسكري والسياسي، وهو النصر الروحي.
غزة علمتنا أن الإيمان بالقضية يصنع من الإنسان معجزة.
حين يرفع طفلٌ أنقاض بيته ليبحث عن لعبته الصغيرة، فهو لا يبحث عن شيء مادي، بل عن معنى البقاء.
وحين تقف أمٌّ أمام قبر ابنها وتقول “الحمد لله”، فإنها لا تنطق من ضعف، بل من يقينٍ بأن الدم الذي سال لن يضيع هباء.

هذا البعد الروحي هو ما جعل من غزة مدرسة للثبات. مدرسة تعلم العالم أن من يصمد بقلبٍ عامر بالإيمان لا يمكن أن يُهزم مهما اشتدت المحن.


سابعًا: الانتصار الإنساني الذي يتجاوز الحدود

ما حدث في غزة لم يكن شأنًا فلسطينيًا فقط، بل شأنًا إنسانيًا عالميًا.
لقد أعادت غزة تعريف مفهوم التضامن، فخرجت الملايين من مختلف الأعراق والديانات في الشوارع، رافعين علم فلسطين لا بدافع السياسة، بل بدافع الضمير.

هذا التوحّد الإنساني النادر في زمن الانقسام هو وجه آخر من وجوه النصر.
غزة وحدت ما فرقته المصالح، وأعادت للبشرية صوتها النقي الذي يقول: “لسنا محايدين أمام الظلم.”

وهذا وحده يكفي ليقال: لقد انتصرت غزة لأنها أيقظت العالم من سباته الطويل.


ثامنًا: النصر لا يعني النهاية

الانتصار الحقيقي لا يكون بنهاية الحرب، بل ببداية الوعي الجديد الذي يولد بعدها.
فغزة اليوم تدخل مرحلة مختلفة، عنوانها: إعادة البناء، وإعادة الثقة، وإعادة صياغة الحلم الفلسطيني برؤية أكثر نضجًا وصلابة.

ولعل أجمل ما في هذا النصر أنه لم يُهدِم فقط جدران الحصار، بل فتح نوافذ الوعي لدى جيلٍ جديدٍ يرى في بلده مشروعًا للكرامة لا مجرد وطنٍ محاصر.

إن إعادة إعمار الإنسان قبل الحجر هي الخطوة الأولى نحو سلامٍ حقيقي، سلامٍ يقوم على العدالة لا على الإملاء، على الحرية لا على التبعية، وعلى الكرامة لا على الخوف.

تاسعًا: دروس من النصر

من بين الركام خرجت دروس كثيرة، أهمها أن الشعوب لا تُقهر حين تمتلك الإيمان، وأن الضعف المادي لا يعني الهزيمة إذا وُجدت الإرادة، وأن الحقيقة في النهاية تنتصر مهما طال ليل التضليل.

تعلمنا من غزة أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الحقوق لا تموت ما دام وراءها من يطالب بها.
وتعلمنا أن الصمت أمام الظلم هو هزيمة أخلاقية، وأن الصوت الحرّ أقوى من ألف بندقية.


عاشرًا: الختام... فجرٌ يولد من تحت الرماد

غزة اليوم ليست مجرد مدينة صمدت في وجه العدوان، بل رمز عالمي لمعنى الكرامة الإنسانية.
لقد انتصرت لأنها لم تستسلم، لأنها قاومت بطريقتها، لأنها حافظت على إنسانيتها وسط جنون العالم.

وها هي الآن تقف على أعتاب مرحلة جديدة، تكتب فيها بدماء أبنائها دستور الصمود، وتؤكد للعالم أن الأوطان لا تُبنى بالقوة، بل بالإيمان، وأن العدالة لا تموت ما دامت في قلوب الأحرار.

غزة لم تنتصر بالسلاح فقط، بل انتصرت بالقيم، بالصبر، وبالإصرار على الحياة.
هي اليوم تشبه طائر الفينيق، تنهض من الرماد، ترفرف بأجنحةٍ من كرامة، وتقول للعالم:

هنا غزة… الصفحة التي لا تُطوى من تاريخ البشرية، والمشهد الذي يختبر فيه الله ضمائركم، فكونوا كما تدّعون… بشرًا.

ونخن لسنا الرقم الأصعب في المعادلة، نحن المعادلة ذاتها، نحن الذين نحيا حين يظن الجميع أننا انتهينا، ونبني الحلم من بين الدمار لأننا ببساطة… لا نعرف معنى الهزيمة.











طباعة
  • المشاهدات: 4725
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
11-10-2025 09:10 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تنجح "إسرائيل" بنزع سلاح حماس كما توعد نتنياهو رغم اتفاق وقف الحرب بغزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم