04-10-2025 05:04 PM
بقلم : د.م أيمن الخزاعلة
رئيس وزراءٌ بقلمٍ ودفترٍ في جيبه- صورةٌ رمزيةٌ جميلةٌ لحنينٍ إلى زمنٍ قد مضى، لكنها اليوم أشبهُ بسقطة قيادية في عصرٍ تُحكم فيه الأنظمة بالبيانات والخوارزميات. لا أكتبُ هذا لأُقلِّل من قيمة الزيارات الميدانية أو قراءة ملاحظات المواطن البسيطة؛ إنما لأُشير إلى أن الإصرار على إدارة الدولة عبر دفترٍ صغير وقلمٍ، بعد أكثر من عامٍ في رئاسة الحكومة، بات يشي بخطورةٍ مؤسسية: إدارةٌ تكاد تظلّ عرضةً للعشوائية، وتُحلّ المشكلات الجزئية بينما تُركَن مشكلات الاستراتيجية الكبرى دون معالجة.
ان التحول الرقمي ليس رفاهية؛ بل هو شرطٌ للبقاء والتنافسية الاقتصادية والاجتماعية. المؤسسات الدولية بما فيها البنك الدولي التي تراقب سياسات الحوكمة الرقمية وتدعمها تؤكد أن الرقمنة تُعيد تشكيل الاقتصاد والدولة وتعدُّ بنيةً تحتيةً ضروريةً للنمو وإدارة الخدمات. كذلك الذكاء الاصطناعي والتحليلات المتقدمة يمكن أن يزيدا من قدرة الحكومة على التنبؤ، واكتشاف الأنماط، وتحسين تخصيص الموارد—ثم تحويل القرارات من حدسٍ فردي بحت إلى سياسةٍ مبنية على أدلة. هذا ما تؤكده دراسات وممارسات منهجية لنجاحات التحول في دول وشركاتٍ رائدة و هنالك أمثلة تطبيقية أظهرت أن الجهات الحكومية التي بنت بنياتٍ لتحليل البيانات والذكاء المؤسسي حققت استجابة أسرع للأزمات، وخياراتٍ أكثر فعالية في الإنفاق، وتحسناً في ثقة الجمهور.
القيادة ليست مجرد شخصيةٍ جذابة أو حضورٍ ميداني؛ هي قدرةٌ على تحويل معلوماتٍ متفرقة إلى إستراتيجيةٍ شاملة. دفتر الملاحظات قد يساعدك على تذكر شكوى هنا أو شكوى هناك، لكنه لا يملك قدرات الربط الكمي، ولا يختزل مؤشرات الأداء، ولا يقدّم نموذجاً للتنبؤ بالأثر المتراكم للسياسات. إدارة بالأحكام الذاتية تُنتج قراراتٍ قصيرة الأجل وعلاجاً عرضياً — وهو ما يفسر مؤشرات الأداء «المتواضعة» التي نراها رغم مرور أكثر من سنة على التولّي.
لقد اخفقت الحكومة في الاستشارة الحزبية و في اختبار الجدية، فالزعامة الحقيقية تُقاس بشراكتها، لا بعزلتها. إذا كان رئيس الوزراء جاداً في إصلاح الدولة والتحديث، فإنه لا يترك الحوارات مع الأحزاب ومع الأطراف المعنية هامدة، خصوصاً ان الحوار و المشاركة السياسية توجيه ملكي لاستثمار التوافق الوطني. إشراك الأحزاب لا يعني تخلياً عن السيادة التنفيذية، بل تعميقٌ للشرعية وتقليصٌ لاحتقان الشارع، ويعطي للحكومة مزيجاً من الخبرات في رسم السياسات الطويلة الأمد. تجاهل المشاورة الحزبية يمضيُ بالحكومة إلى إدارةٍ انعزالية تعاني من ضعف التمثيل والفعالية.
و في اطار قراءةٌ سياسية للسلوك القيادي، هناك مثل شعبي يقول: «لو بدها تمطر كان غيمت» - بمعنى أن النوايا وحدها لا تكفي؛ المطلوب وجود أدواتٍ وبياناتٍ ومقاربةٍ منهجية لتحويل النوايا إلى نتيجة. كثيرٌ من الرؤساء التنفيذيين السياسيين يملأون الوقت بالعروض الميدانية وصور الزيارات، لكنهم يفتقدون البنية لتحويل تلك الزيارات إلى سياساتٍ قابلة للقياس والتنفيذ. في عالمٍ تحكمه المؤشرات والنتائج، النية دون بيانات تشبه دعاءً بلا إجراء.
مستلهَمًا من فكر ميكافيللي وتفسيرات روبرت غرين المعاصرة، يقوم "الثعلب" على إتقان إخفاء النوايا، وإظهار الضعف حين يلزم، ثم الانسحاب المؤقت ليعود في لحظة القوة. غير أن تحويل هذه الدهاءات إلى نهجٍ لإدارة الدولة لا يعني براعة سياسية بقدر ما يعني إلباس العجز ثوب الذكاء. فالسلطة حين تنغمس في صناعة المظاهر والتلاعب بالانطباعات، تجعل الناس يظنون أن القائد يملك زمام الأمور بينما الواقع مغاير تمامًا. مثل هذا الأسلوب قد يحقق مكاسب تكتيكية محدودة في المدى القصير، لكنه يستهلك رصيد الثقة العامة ويقوّض أسس المؤسسات على المدى الطويل.
على رئيس الوزراء، إن كان جادًا في الإصلاح، أن ينتقل من إدارة بالانطباعات الفردية إلى نهجٍ مؤسسي قائم على البيانات، يبدأ بخارطة طريق رقمية وطنية تُؤسس لبيئة آمنة لتخزين المعلومات وتحليلها، ويعززها بإنشاء وحدة مستقلة للدراسات وإنتاج مؤشرات أداء وتقييم السياسات بموضوعية. كما أن توظيف الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يكون أداةً مساندة تعزز الكفاءة دون أن تُقصي الأخلاق أو المساءلة، مع وضع ضوابط واضحة للحوكمة. والأهم أن تُفتح قنوات تشاورية حقيقية مع الأحزاب والقوى المدنية، بحيث تتحول الشراكة إلى رافعة للشرعية والتوافق الوطني بدل أن تبقى مجرد استعراض شكلي.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-10-2025 05:04 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |