21-09-2025 10:22 AM
بقلم : زياد فرحان المجالي
أين الخط الأحمر؟ أهو خطٌ يُرسم بالحبر، أم جدارٌ يُرفع بالحذر؟ أهو وعدُ الردع، أم وهجُ الكلام الذي ينطفئ مع أول اختبار؟ منذ عقودٍ، امتلأت المنابر بخطوطٍ قيل إنها حمراء: القدس خط أحمر، الأقصى خط أحمر، الدم العربي خط أحمر. لكن كلما سال الدم، أو انتُهكت الأرض، أو هُوِّدت القدس، انكشف المستور: الخطوط كانت وهمًا، والوعود كانت صدى، والشعوب بقيت تتساءل: من يحرس هذه الحدود؟ ومن يجرؤ على رسمها من جديد؟ لقد تحوّل "الخط الأحمر" في خطاب الزعماء إلى ما يشبه الإبرة التي تُغرز في وعي الشعوب، لا لتُشفيها، بل لتُخدِّرها. قيل إن تدمير العراق خط أحمر، فسقط العراق. قيل إن حصار غزة خط أحمر، فاشتدّ الحصار. قيل إن الأقصى خط أحمر، فاقتحمه المستوطنون في وضح النهار. هكذا صار الخط الأحمر وعدًا بلا عهد، وردعًا بلا فعل، وصار في نظر الشعوب أداة تسكينٍ لا أداة تمكين. حتى فقدت العبارة وزنها، وصارت تُستقبل بالسخرية أكثر من التصفيق. ظهر المصطلح في السبعينيات، مع محاولات الأنظمة استعادة صورتها بعد هزيمة 1967. كان المطلوب إقناع الجماهير أن هناك نقاطًا لا يمكن التنازل عنها، وأن ما ضاع في الحرب سيُسترد في السلم. في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كانت فلسطين كلها خطًا أحمر. في عهد السادات، أصبح سيناء هو الخط الأحمر حتى لو فُقد ما حوله. في الأردن، كان الحديث عن الوصاية على القدس خطًا أحمر، لكن الواقع كشف أن الخطوط باتت مرنة أمام الضغوط الدولية. في الخليج، ارتبط "الخط الأحمر" بالنفط وأمن الممرات المائية. مع الزمن، صار المصطلح جزءًا من الخطاب أكثر منه جزءًا من الاستراتيجية. الإعلام يردده، والجماهير تحفظه، لكن الميدان لا يحترمه. إسرائيل أدركت مبكرًا أن الخطوط الحمراء العربية بلا حراسة. كل مرة تُرفع فيها الشعارات، تتقدم خطوة إلى الأمام. القدس: عام 1980 أعلنت ضمها رسميًا، متحديةً كل بيانات القمم العربية. المجازر: من صبرا وشاتيلا إلى جنين وغزة، ارتكبت المجازر ولم يوقفها أحد. الاستيطان: تضاعف عشرات المرات منذ توقيع أوسلو، رغم أن الاتفاق نص على تجميده. التطبيع: دول عربية رفعت شعار "لا صلح ولا اعتراف" ثم وقّعت اتفاقيات أمنية واقتصادية. الاغتيالات: قادة المقاومة الفلسطينية والعلماء الإيرانيون سقطوا واحدًا تلو الآخر، من دون أي ردع حقيقي. كل تجاوز كان اختبارًا. إسرائيل جربت، ثم اكتشفت أن رد الفعل لا يتعدى الاستنكار. ومن هنا رسخت عقيدتها: "الخط الأحمر العربي… يمكن تجاوزه بلا ثمن". لم تكن إسرائيل وحدها من استهان بالخطوط الحمراء. واشنطن أعادت رسمها بما يتوافق مع مصالحها. بعد غزو العراق عام 2003، صار إسقاط نظام عربي ممكنًا بلا اعتبار لأي خط أحمر. بعد الربيع العربي، صارت التدخلات الإقليمية مشروعة طالما لا تهدد أمن إسرائيل. في الملف النووي الإيراني، وضعت واشنطن خطوطًا حمراء واضحة: منع امتلاك القنبلة. لكنها لم تعترف بأي خط أحمر عربي بشأن فلسطين أو القدس. هكذا اكتشف العرب أن الخط الأحمر الوحيد المعترف به دوليًا هو أمن إسرائيل، بينما تُترك بقية القضايا لمعادلة القوة على الأرض. لكن الشعوب لم تنسَ. بالنسبة لها، الخط الأحمر ليس شعارًا رسميًا، بل مسألة كرامة وهوية. حين اندلعت الانتفاضة الثانية، خرج الملايين في العواصم العربية دفاعًا عن القدس. في حرب غزة 2014، تكررت المظاهرات من الرباط حتى صنعاء. في العدوان الأخير، امتلأت الجامعات والشوارع بالغضب الشعبي، حتى في دول وقّعت اتفاقيات تطبيع. الشعب يرى أن الخط الأحمر الحقيقي هو الدم الفلسطيني، وهو رفض الاحتلال، وهو صون السيادة الوطنية. قد تُقيد الأنظمة هذا الغضب، لكن التاريخ يثبت أن تراكم الانتهاكات يولد انفجارات يصعب ضبطها. حصار غزة: منذ 2007 وحتى اليوم، قيل إن تجويع مليوني إنسان خط أحمر. لكن الحصار مستمر، بل تواطأت أطراف عربية في تشديده. الأقصى: اقتحامات المستوطنين صارت حدثًا شبه يومي، رغم أن كل زعيم عربي وصفه بأنه "خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه". سوريا ولبنان: الغارات الإسرائيلية على دمشق وبيروت تجاوزت كل ما سُمّي سيادة وحدودًا حمراء. اتفاقيات التطبيع: الإمارات والبحرين والمغرب والسودان فتحت أبوابًا لإسرائيل، رغم أن التطبيع كان يُعتبر خيانة بالأمس. هذه الأمثلة تكشف أن "الخط الأحمر" لم يعد له معنى في السياسة الرسمية، بل صار مرادفًا للضعف والعجز. الخط الأحمر لا يتعلق فقط بفلسطين وإسرائيل. هناك خطوط حمراء داخلية في العالم العربي نفسه. قمع الحريات، منع المعارضة، إسكات الإعلام… كلها كانت خطوطًا ادّعت الأنظمة أنها "لا تتجاوزها"، لكن الواقع كشف العكس. الاقتصاد: كان يُقال إن قوت المواطن خط أحمر، لكن السياسات الاقتصادية جعلت الفقر يتضاعف. السيادة: كان يُقال إن التدخل الأجنبي مرفوض، لكن القواعد العسكرية الأجنبية تنتشر في معظم الدول العربية. فهل مات مفهوم "الخط الأحمر"؟ الجواب ليس بسيطًا. نعم، الخطوط الرسمية ماتت لأنها لم تُحترم. لكن الشعوب ما زالت تحتفظ بخطوطها، حتى لو عجزت الآن عن فرضها. التاريخ يعلّمنا أن الخط الأحمر للشعوب قد يتأخر، لكنه لا يسقط. من الجزائر في الثورة، إلى لبنان 2006، إلى غزة 2023–2025، هناك دائمًا لحظة تنقلب فيها الطاولة. اليوم نحن بحاجة إلى إعادة تعريف: الخط الأحمر هو حق العودة لا يمكن التنازل عنه. الخط الأحمر هو القدس لا تقبل القسمة. الخط الأحمر هو هوية الأمة في مواجهة مشاريع التفتيت. الخط الأحمر هو السيادة التي لا تباع في صفقات سياسية أو اقتصادية. إن لم يُعَد تعريف هذه الخطوط بوضوح، فستظل إسرائيل ترسم لنا حدودًا جديدة كل يوم. في النهاية، يبقى السؤال: أين الخط الأحمر؟ الجواب: ليس في بيانات القمم ولا في تصريحات الوزراء. الخط الأحمر اليوم يسكن في قلوب الشعوب، في صمود غزة، في هبّات الضفة، في أصوات الشباب التي ترفض التطبيع، وفي وعي الأجيال الجديدة التي تدرك أن الكرامة لا تُشترى بالمال ولا تُباع في المؤتمرات. إذا كانت الأنظمة قد تنازلت عن الخطوط الحمراء، فالشعوب تعيد رسمها كل يوم بدماء الشهداء وصوت المقاومة. ومن هنا فقط يبدأ مستقبل الصراع: من خط أحمر يُكتب في الضمير لا على الورق.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
21-09-2025 10:22 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |