21-09-2025 08:25 AM
بقلم : د. محمود الحبيس
في المطبخ السياسي الأردني، تُعد اليوم طبخة كبرى عنوانها دمج وزارة التعليم العالي مع وزارة التربية والتعليم. على الورق قد يبدو الأمر إعادة ترتيب للأواني فوق النار، لكن من ينظر بتمعّن يكتشف أن المقادير مختلة، والخلطة مهددة بأن تفسد الطعم كله.
هيكل مترهل.. وبيروقراطية تتضاعف.
بدلاً من الرشاقة الإدارية، نحن أمام خطر تضخم بيروقراطي حقيقي. تشير الأرقام إلى أن ما بين 200–250 موظفًا، أي ما نسبته 30–35% من القوى البشرية، معرضون للإقصاء أو التهميش. ماذا يعني ذلك؟ خسارة خبرات تراكمت عبر عقود، وتراجع في قدرة المؤسسة على الإنجاز.
الطلبة على الهامش: الجامعات خارج الأولوية
أكثر من 60 ألف خريج سنويًا سيجدون أنفسهم عالقين في دهاليز بيروقراطية جديدة، تتسبب في تأخير معاملاتهم الأكاديمية والإدارية بنسبة قد تصل إلى 40%. هؤلاء الطلبة، الذين يمثلون عماد المستقبل، قد يصبحون الضحية الأولى لطبخة غير محسوبة.
جامعات مبعثرة.. ومدارس متكدسة.. ومشهد أكاديمي معقد.
تحت مظلة الوزارة الجديدة، سيجتمع 32 جامعة و51 كلية مجتمع وأكثر من 4 آلاف مدرسة في مشهد إداري واحد. لكن بدل أن يسهم الدمج في التبسيط، سنكون أمام بيروقراطية مثقلة تتشابك فيها الصلاحيات وتضيع المسؤوليات وتختلط الأهداف وتتخربط المسارات.
الطالب الجامعي من بين 350 ألف طالب قد ينتظر معاملة بسيطة تتأخر، والمعلم الذي يخدم ضمن منظومة تضم 1.7 مليون طالب مدرسة قد يجد نفسه عالقًا في الروتين. وفي النهاية، يغدو صوت الطالب والأكاديمي والمعلم مجرد تفصيل صغير وسط "طبخة" كبيرة، لا أحد يعلم إن كانت ستنضج على مهل… أم تحترق على نار القرارات المستعجلة.
البحث العلمي في خطر: استقلالية مفقودة
هيئة الاعتماد وضمان الجودة تواجه تحديًا مزدوجًا: بعد دمج هيئة تنمية وتطوير المهارات معها مؤخرًا، قد تضطر في حال دمج وزارة التربية مع وزارة التعليم العالي إلى استيعاب مديريتين إضافيتين من وزارة التعليم العالي.
هذا يعني أن كاهل الهيئة سيثقل بمسؤوليات أكبر، وقد يؤدي عمليًا إلى فقدان نحو 20% من استقلاليتها، وتحويل قراراتها العلمية إلى رهينة بيروقراطية متشابكة، بدل أن تظل أداة رقابة أكاديمية فاعلة تضمن جودة التعليم العالي.
الأرقام لا تكذب: خسائر بالجملة – دمج الموازنات
في مطبخ القرار الأردني، يُفكر الطهاة السياسيون اليوم في دمج موازنة وزارة التعليم العالي، البالغة 116.33 مليون دينار، مع الموازنة العملاقة لوزارة التربية والتعليم التي تصل إلى 1.254 مليار دينار. على الورق، تبدو العملية مجرد خلط للمكونات المالية، لكن الخبراء يحذرون: هذه الطبخة محفوفة بالمخاطر.
المكون الأساسي – دعم الجامعات – سيصبح ضئيلاً وسط بحر من النفقات العملاقة، حيث يمكن أن يتبخر ما بين 30–40% من الـ70 مليون دينار المخصصة للجامعات، أي ما يعادل 21–28 مليون دينار. هذا الفقد المالي لن يؤثر فقط على الموارد، بل سيضع الجامعات تحت ضغط بيروقراطي هائل، ويجعل القرارات الأكاديمية مرهونة لإيقاع المطبخ الكبير، بدل أن تذهب الأموال مباشرة لدعم البرامج والمنح والخدمات الطلابية.
الطلاب الجامعيون والمعلمون الأكاديميون يصبحون هنا كالمكونات الصغيرة التي تضيع بين الصحون الكبيرة: الطالب قد يجد معاملته متأخرة، والمعلم قد يرى دعمه يذوب في بحر النفقات. كل قرار مالي في هذا المزيج الكبير سيؤثر على جودة التعليم، واستقلالية الجامعات، واستمرارية المشاريع البحثية الحيوية، لتصبح الطبخة في نهاية المطاف رهينة قرارات سريعة ومكونات غير متجانسة، مهددة بحرق القدر قبل أن ينضج أي طبق.
إصلاح ممكن بلا دمج شامل:
قبل الانزلاق إلى خيار الدمج الكامل، يمكن التفكير بخيارات أكثر مرونة تعالج التحديات دون أن تخلط الأواني كلها في قدر واحد. إنشاء مجلس أعلى للتعليم يضم وزارتي التربية والتعليم العالي وهيئة الاعتماد، قد يكون خيارًا يحقق التنسيق المطلوب دون التضحية باستقلالية الجامعات أو إثقال كاهل الوزارة ببيروقراطية جديدة.
التجارب الإقليمية تقدم دروسًا مهمة: في مصر، أظهرت مركزية القرار في وزارة التعليم العالي والتربية والتعليم معًا أن حجم الجهاز البيروقراطي الضخم أدى إلى إبطاء القرارات وتراجع جودة المخرجات الجامعية. وفي المغرب، واجهت محاولات الدمج تحديات مشابهة، مما دفع لاحقًا إلى تعزيز استقلالية الجامعات ومنحها صلاحيات أكبر في الإدارة والتمويل. هذه التجارب تبيّن أن التنسيق يمكن تحقيقه عبر أطر مؤسسية عليا، لا عبر دمج بيروقراطي كامل.
كما أن التحول الرقمي في المعاملات، وتبسيط الإجراءات عبر منصات موحدة للطلبة والمعلمين، يوفران نتائج ملموسة أسرع وأقل كلفة من عملية الدمج الإداري الشامل. الإصلاح الحقيقي ليس في جمع المؤسسات تحت سقف واحد، بل في جمع الرؤية الوطنية والحوكمة الرشيقة في منظومة واحدة.
دروس العالم: تجارب فاشلة واستثناء فنلندي.
تجارب الدول الأخرى ليست مطمئنة؛ فمحاولات مشابهة قادت إلى مركزية خانقة، وتراجع نوعية المخرجات الجامعية. وحدها فنلندا نجحت، والسر لم يكن في الدمج نفسه، بل في منح الجامعات حرية أكبر وميزانيات مستقلة.
نداء إلى دولة رئيس الوزراء: لا قرار بلا خطة اكتوارية:
قبل أن نضع هذه الطبخة على النار، لا بد من التوقف عند سؤال جوهري: ما الخطة؟ من دون خطة اكتوارية دقيقة توازن بين الكلفة والعائد، وتضمن بقاء الجامعات قوية ومستقلة، سنكون أمام وصفة سريعة الاحتراق.
الخاتمة:
"من يطبخ بلا مقادير، لن يلوم النار حين تحرق القدر."
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
21-09-2025 08:25 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |