17-09-2025 10:47 AM
بقلم : زياد فرحان المجالي
لم تكن اتفاقيات إبراهيم التي جمعت إسرائيل بالإمارات والبحرين ثم المغرب والسودان مجرد حدث بروتوكولي في قاعات البيت الأبيض بل بدت وكأنها محطة فاصلة في مسار المنطقة، يومها قيل إن التاريخ ينعطف نحو شرق أوسط جديد وإن الوعود بالازدهار الاقتصادي ستفتح أبواب المستقبل وإن صور معارض دبي ومؤتمرات البحرين واستثمارات المغرب ستعكس وجهًا آخر للمنطقة طالما حُرمته من الحروب والانقسامات، لكن السنوات الخمس التي تلت، وخصوصًا بعد حرب غزة وما تبعها من ضربة الدوحة، كشفت أن ما صُوّر كطريق للسلام والرخاء لم يكن في جوانب كثيرة سوى وهم جديد يعيد إنتاج أخطاء الماضي ويكرّس أسلوب القفز فوق جوهر الصراع الفلسطيني. الأرقام بدت براقة في البداية: ارتفاع التجارة مع الإمارات بنسبة عشرة بالمئة حتى في ذروة الحرب ومع البحرين بنسبة ثمانمئة وثلاثة وأربعين بالمئة ومع المغرب أربعين بالمئة فيما شهدت مصر زيادة بلغت واحدًا وثلاثين بالمئة والأردن سبعة بالمئة، النصف الأول من عام 2025 أظهر استمرار النمو مع مصر والمغرب والأردن لكنه كشف في الوقت ذاته أن الأرقام مع الإمارات والبحرين عادت إلى مستويات 2023، ورغم أن الاتفاقيات فتحت ملفات غير مسبوقة مثل التعاون في الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والصحة والفضاء والأقمار الصناعية فإن الواقع العملي كان مختلفًا، أكثر من تسعين بالمئة من اللقاءات بين رجال أعمال إسرائيليين وعرب لم تُثمر شيئًا، والسبب أن العلاقة مثقلة بعوائق أعمق من الأرقام ابتداءً من البيروقراطية الإسرائيلية الخانقة مرورًا بثقافة التعالي التي رافقت التعامل مع الضيوف العرب في مطار بن غوريون وصولًا إلى حالة مزرية للمعابر مع الأردن ومصر لا تليق بالحديث عن شراكات استراتيجية. الأخطر أن الاتفاقيات لم تُسوّق كمشروع سياسي أو اقتصادي فحسب بل جرى تغليفها بمفهوم ثقافي ديني أُطلق عليه الدين الإبراهيمي، وهنا انكشف البعد الأعمق للمخطط، محاولة لخلق هوية هجينة تذيب الفوارق العقدية وتختزل الإسلام في فرع من مشروع سياسي روحي يخدم التطبيع، الأزهر رفض الفكرة منذ لحظتها الأولى وعدّها مؤامرة على العقيدة الإسلامية، وعلماء فلسطين والأردن والسعودية أكدوا أنها لا تعبّر عن وحدة الأديان بقدر ما تسعى لتجريد المسلمين من خصوصيتهم الروحية وتحويل المقدسات إلى مساحة بلا هوية، وبهذا المعنى فإن الدين الذي يُشكّل جوهر الوعي الجمعي العربي والإسلامي لم يكن ولن يكون مادة للتفاوض أو التسويات، وإقحامه في معادلات السلام الاقتصادي فجّر رفضًا شعبيًا واسعًا وأثبت أن ما وراء المشاريع الاستثمارية كان مشروعًا أخطر يراد فرضه من فوق. جاءت حرب غزة بعد السابع من أكتوبر لتضع هذه الاتفاقيات تحت الاختبار الأكبر، في البداية ساد الاعتقاد أنها لن تصمد أمام صدمة الشارع لكن مرور عامين أثبت أن العلاقات الرسمية والدبلوماسية والأمنية استمرت وإن كانت بلا عمق، لا سلام دافئ ولا تواصل بشري أو ثقافي بل علاقات باردة فوق بركان مشتعل، الهجمات الحوثية في البحر الأحمر كشفت هشاشة الممرات التجارية وأعادت طرح مشروع الممر البري للهند وأوروبا عبر الخليج والأردن وإسرائيل بينما وضع السباق العالمي في الذكاء الاصطناعي إسرائيل والإمارات في موقع شراكة تكنولوجية استراتيجية برعاية واشنطن لمواجهة الصين، عودة ترامب إلى البيت الأبيض فتحت نافذة جديدة للضغط نحو تعميق الاتفاقيات وربما جر السعودية إليها لكن الرياض لم تفتح الباب بالكامل وأبقت خطواتها مدروسة. المواقف الخليجية عكست تباينًا بين الطموح الاقتصادي والحذر السياسي، الإمارات اندفعت لتكون واجهة المشروع متصورة أن المال والتكنولوجيا قادران على ترويض الوعي العربي لكنها اصطدمت بجدار من الرفض الشعبي الذي تعزز مع كل قصف على غزة، البحرين الأصغر حجمًا والأكثر حساسية ديمغرافية وجدت نفسها في معادلة صعبة، علاقاتها الأمنية مع إسرائيل تتعمق لكن قدرتها على إقناع مجتمعها بجدوى التطبيع تتآكل، أما السعودية فاختارت طريقًا آخر، تمسك بخيوط اللعبة دون أن تقفز نحو التطبيع الكامل مدركة أن موقعها كقوة إسلامية كبرى مرتبط ببقائها حامية للقضية الفلسطينية في وعي الملايين، ولذلك أبقت خطواتها محدودة فتحت قنوات اقتصادية ضيقة وسمحت بمرور بعض الشاحنات لكنها لم تتورط في خطاب الدين الإبراهيمي ولم تمنح إسرائيل ما تريده من شرعية دينية. في الضفة الأخرى من العالم العربي بدا المشهد المغاربي مختلفًا، المغرب انضم إلى الاتفاقيات من بوابة الصحراء الغربية إذ ربط توقيعه باعتراف أميركي بسيادته عليها، كان الأمر بالنسبة له جزءًا من حسابات وطنية داخلية بقدر ما هو رهان إقليمي، اقتصاديًا استفاد من نمو تجاري بلغ أربعين بالمئة ومشاريع استثمارية واعدة لكن الوجدان الشعبي ظل متحفظًا، بل إن نخبًا ثقافية ودينية مؤثرة رفضت بشكل صريح فكرة الدين الإبراهيمي ورأت فيها مساسًا بالهوية الإسلامية المغربية التي تتكئ على رصيد حضاري ضارب في التاريخ، هنا تتجلى الفوارق بين الخليج والمغرب ففي الخليج يرتبط التطبيع بالمصالح الاقتصادية والأمنية والتحالف مع واشنطن بينما في المغرب ارتبط بحسابات سيادية تتعلق بالصحراء دون أن ينجح في تغيير المزاج الشعبي أو محو الذاكرة التاريخية التي تضع فلسطين في قلب الوجدان، أما السودان فقصته مختلفة إذ جاء انضمامه تحت ضغط أزماته الداخلية ورهاناته على رفع العقوبات الأميركية أكثر من كونه خيارًا نابعًا من رؤية استراتيجية، ومع الانقلابات والتقلبات السياسية التي عاشها تراجعت فاعلية الاتفاق إلى حد التجميد مما جعل الخرطوم أقرب إلى الضيف المتردد منه إلى شريك فاعل. الأردن ظل ينظر بريبة لا سيما أن له أطول حدود مع إسرائيل وأن القدس جزء من هويته السياسية والروحية، بالنسبة لعمان أي توسع إسرائيلي في القدس يُقرأ كتهديد مباشر لدورها، لذلك ورغم الفوائد المحدودة التي جناها اقتصاديًا بقيت النظرة مشوبة بالقلق، مصر تعاملت ببراغماتية محسوبة، زادت التجارة بنسبة واحد وثلاثين بالمئة لكنها بقيت حذرة من أن تتحول الاتفاقيات إلى منصة لإضعاف دورها المركزي في الملف الفلسطيني والإقليمي، أما فلسطين فكانت الضيف الغائب، السلطة الفلسطينية جرى تهميشها عمدًا في محاولة لجعلها خارج المعادلة لكن كل الأحداث أثبتت أن القضية لا يمكن تجاوزها، من غزة إلى الضفة تبقى العقدة التي تقرر مصير أي مشروع إقليمي، بالنسبة لإسرائيل العقبة الأبرز هي حماس، الخطاب الإسرائيلي يقول إن القضاء عليها شرط مسبق للاندماج ليس كمصلحة إسرائيلية فقط بل كمصلحة عربية أيضًا، غير أن هذا المنطق يتجاهل أن وجود حماس ليس منفصلًا عن عمق القضية الفلسطينية بل هو امتداد لها، اختزال الصراع في معبر حدودي أو مشروع استثماري يعني القفز فوق جوهر الصراع وهو ما أثبت فشل الاتفاقيات في تجاوزه. وبعد خمس سنوات يمكن القول إن اتفاقيات إبراهيم منحت إسرائيل فرصة لترسيخ نفسها كشريك إقليمي لكنها لم تستطع كسب القلوب أو العقول، السبب ليس فقط في الأرقام والمشروعات المؤجلة بل في الأساس الثقافي والديني الذي حاول البعض تسويقه، الدين الإبراهيمي بالنسبة للمسلمين كافة ليس امتدادًا طبيعيًا لتاريخ مشترك بل جسم غريب على العقيدة ولن يكون يومًا أرضية مقبولة لأي اندماج حقيقي، الشعوب قد تتعامل مع التجارة والمصالح لكن حين يمسّ الأمر الدين لا مساومة ولا خلط ولا هجين، المنطقة اليوم تقف عند مفترق طرق، إما أن تصحّح إسرائيل أخطاءها فتتعامل بندّية واحترام حقيقي مع شركائها العرب وتكف عن محاولات إعادة تشكيل وعيهم الديني وإما أن يغادر قطار الازدهار المحطة دونها، الفرص الاقتصادية قد تتكرر لكن الهوية لا تُباع ولا تُشترى، وفي نهاية المطاف قد تُفتح الأسواق وتُوقّع العقود وتُعقد المؤتمرات لكن الهوية العربية تبقى الجدار الأخير الذي تتكسر عليه المشاريع الغريبة، فهذه الهوية بما تحمله من إرث حضاري وديني وثقافي ليست مجرد شعار سياسي يُرفع عند الحاجة بل هي العمود الفقري الذي يحفظ الأمة من الذوبان في مشاريع هجينة لا جذور لها، كل محاولة لفرض دين إبراهيمي أو صياغة وعي جديد بمعزل عن فلسطين محكوم عليها بالسقوط لأن الشعوب حين تمتحن في دينها وعقيدتها وانتمائها تتحول إلى كتلة صلبة لا تُكسر، وهنا تكمن المفارقة، إسرائيل التي سعت عبر اتفاقيات إبراهيم إلى تكريس نفسها كقوة طبيعية في المنطقة اكتشفت أن الهوية العربية والإسلامية ما زالت عصيّة على التطويع وأنها رغم الخلافات والانقسامات قادرة على أن تقول لا، هذه الهوية هي الجدار الأخير الذي يحفظ التوازن في زمن الاضطراب ويذكّر الجميع أن الأمة قد تُضعفها السياسات لكنها لا تفقد جوهرها، وأن أي مشروع يتجاوزها لن يكتب له البقاء مهما كانت المغريات والضغوط.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-09-2025 10:47 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |